الأربعاء 2019/06/26

آخر تحديث: 01:24 (بيروت)

الفلسطينيون وخطابات "العونية" العنصرية: توطين الكراهية

الأربعاء 2019/06/26
الفلسطينيون وخطابات "العونية" العنصرية: توطين الكراهية
ما يتفوه به باسيل يهدد كل ركائز ونتائج "الحوار اللبناني - الفلسطيني" (Getty)
increase حجم الخط decrease

شكا عرفات مرة للأخضر الإبراهيمي أن اتفاق الطائف يتجاهل الفلسطينيين، بينما أتى على ذكر الأطراف الأخرى. ربّما لو قُدّر للرئيس الراحل أن يستمع إلى موجة العنصرية الجديدة ضد الفلسطينيين والسوريين التي تعبر عنها بعض خطابات وزير الخارجية اللبنانية جبران باسيل وسلوك تياره، لربما تمنى أن يسري هذا التجاهل على خطابات الكثير من القادة اللبنانيين.

يتحدث باسيل عن التوطين، لا برفضه، أو التحذير منه، بل بوصفه قائماً، وهناك من يسعى لتثبيته بالقوانين. لم يُسقط صدور "الرؤية اللبنانية الموحّدة لقضايا اللجوء الفلسطيني" قضية التوطين من قاموس خطاباته، رغم أن تياره كان ممن وقّعوا على اعتبار أن التوطين يعني التجنيس حصراً. لكن بخطابات باسيل عاد التوطين مبهماً، بلا تعريف. ليسهل استخدامه. وهو انقلاب أول على الحوار اللبناني- الفلسطيني.

رعاة الخوف
التخويف بالتوطين أداة سهلة للسيطرة على جماهير تجهل أن الفلسطينيين لم يحاولوا يوماً أن يتمددوا، ضمن مشروع، خارج مخيماتهم، يوم امتلكت منظمة التحرير المال الكافي والسلاح لفعل ذلك. ولم يفطنوا أن ياسر عرفات حاول الكثير ليوقف الحرب، حتى تسلل ضمن الرصاص إلى بيت الكتائب، ليصنع المصالحة. لكن في الحرب الأهلية، للقوى الداخلية الحق بإطلاق الطلقة الأولى، أما الطلقة الأخيرة فقرارها بيد قوى أخرى. كان جلّ ما حفظوه من تلك الحقبة، هو كيف ساهم بعض رموزهم في حصار تل الزعتر. وكانوا يعيّرون خصومهم خلال انتخابات المتن الفرعية عام 2007 بأنهم حاولوا إنقاذ الفلسطينيين.

التوطين هو شعار عنصري، استخدمه التيار بشكل لم يسبق لقوى داخلية أن استخدمته. صار حاضراً بكل مشروع انتخابي. بكل خطاب. حتى لتبرير سلاح حزب الله، فهو لمنع التوطين. كان رفع شعار التوطين أداة لزرع الخوف، ومشروعاً لتهجير الفلسطينيين. مرة يُطرح التهجير علناً. ومرات يجري تطبيقه سراً. لكن البصمات الرسمية لا تخطئها عين مبصرة.

أخيراً صار للخوف رعاة. يطعمونه مفردات التوطين وخطابات العنصرية يومياً. شرح الزعيم النازي هيرمان غورينغ، مؤسس الجهاز السري "الجستابو"، لصحفي أميركي كيفية انزلاق الديموقراطية باتجاه العنصرية بقوله: ازرع الخوف عند الناس يتنازلون لك طوعاً عن حرياتهم! وبالمناسبة، في أواخر الحرب العالمية الثانية، أعلن غورينغ نفسه الفوهرر الجديد لألمانيا النازية، لكن كانت مدمَّرة تماماً!

العدو العربي المسلم
الحساسية الباسيلية تجاه التوطين، والحفاظ على صفاء الجينات اللبنانية، لا تبدو نفسها تجاه قضايا أجمع عليها اللبنانيون في حوارهم عام 2006، مثل سحب السلاح الفلسطيني خارج المخيمات. وكأن الفلسطيني الذي يعترض تيار باسيل على تملّكه مسكناً خارج المخيم، مسموح له أن يمتلك ثكنة عسكرية! يفقد الإنسان السلطة على الغريزة، وينزاح العقل جانباً، كلما تضاعف الخوف، الذي مفتاحه، في هذه الحال، الحديث عن التوطين.

باسيل يعلن تأييده إعطاء الجنسية لأبناء المرأة اللبنانية باستثناء تلك المتزوّجة من فلسطيني أو سوري. يحرم بذلك 4800 امرأة لبنانية متزوّجات من فلسطينيين، من أن يمنحن حق الحصول على الجنسية اللبنانية لأبنائهن. موقف عنصري، يستهدف الفلسطينيين والمرأة معاً. وبالمناسبة موقف التيار العملي من المرأة عامّة لا يجب أن يمنح الكثير من الفخر لدعاة الصفاء الجيني. ربما علينا أن نتوقع أن يكُنّ الأمهات اللبنانيات المتزوجات من فلسطينيين، أكثر عرضة للتمييز باعتبارهن هددن مباشرة التمايز الجيني الذي ينادي به باسيل.

يعرف الفلسطينيون أن استهداف العمال السوريين اليوم، لن يكون بديلاً عن استهداف الفلسطينيين غداً. كما كان العكس طيلة الفترة التي تلت الحرب الأهلية اللبنانية حتى خروج الجيش السوري عام 2005. يومها كتب الراحل جوزيف سماحة "لقد تم توفير "عدو عربي مسلم" يمكن التصويب عليه من أجل تبرير العلاقة مع الصديق العربي (سوريا) ومع المقاوم المسلم "حزب الله". أي إن اضطهاد الفلسطينيين كان "حاجة أيديولوجية" تشكل جزءاً من منظومة السيطرة المعقدة على الوضع العام".

الأرض والقديسون
الحاجة الأيديولوجية لم تنتف بعد. قد تملي ظهورها اتفاقات جديدة مع سوريا، أو ضغوط من خلف الحدود، أو داخلها حتى. ليعود الخطر الديمغرافي الفلسطيني خطراً مقدّماً على كل الأخطار. الخطاب الذي يطارد العمال السوريين اليوم، شبيه بالخطاب الذي قاد إلى استهداف العمال السوريين في لبنان مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، فقُتل 63 منهم، وأُجبر الآلاف على الفرار. فخطاب الكراهية لا يميّز. القلوب الأنانية لا تعرف الحب.

إذا كان هذا الخطاب يستهدف السوريين والفلسطينيين، فإنه سيصيب الجميع: الشريك المسلم، المرأة، ذوي الاحتياجات الخاصة، العاملات في المنازل، وحتى ذوي البشرة السوداء. فلم يعد يثير استغراب الكثير من الفلسطينيين سؤال لدى الشريحة المتأثرة بالخطاب الباسيلي "فلسطيني وأبيض؟!".

خطاب باسيل انقلاب على مقررات "الرؤية اللبنانية" التي تدعو إلى منظور سياسي وحقوقي وخدماتي بالتعامل مع الفلسطينيين، وحق الفلسطينيين في العمل، وفي الضمان الاجتماعي. وهو يهدد مفاعيل اعتذار فلسطيني من اللبنانيين تلاه السفير عباس زكي عام 2008، ولحق به اعتذار مسيحي من "إخواننا الفلسطينيين".  

فباسيل الذي يقول "إن هذه الأرض التي أثمرت أنبياء وقديسين لن يحل محلّنا فيها لا لاجئ ولا نازح ولا فاسد"، يجعل من اللاجئ الفلسطيني نقيضاً لطهارة الأرض. ويمكن أن يستدرج هذا الخطاب خطاباً فلسطينياً مقارِناً بين أي الوطنين أثمر أنبياء أكثر، وخطاباً سورياً يتحدّث عن قديسين وطؤوا أرض سوريا. خطاب باسيل يمكن أن يخلق عنصريات مقابلة. وهناك خطاب دفاعي فلسطيني غير مسبوق، وخطير.

إن خطابات باسيل تجدها في أدبيات التيار الوطني الحر، وفي الكتابات اليومية تقريباً لمناصريه على مواقع وصفحات السوشال ميديا. وتساهم بتعبئة شريحة فلسطينية واسعة. حتى إن هناك تجاوزات وقعت بحق فلسطينيين خلال الأشهر الماضية، في مراكز رسمية، لا يمكن الجزم إن كانت بتأثير من هذا الخطاب، لكن تزايد عددها مؤخراً، وإن لم تصل حتى الآن إلى سياسة لدى الأجهزة، لكنها توحي بمؤشرات خطيرة. إحدى هذه الحوادث وقعت لطالب طب فلسطيني، في سنته الدراسية الأخيرة. أوقف في مطار بيروت، لساعات، ووُجّهت له عبارات عنصرية. وتطلّب الأمر تدخل جامعته، واستنكرت المراجع الرسمية هذا التصرف.

قتل الروح
هناك رأيان فلسطينيان في هذا الموضوع. رأي يرى أنه يجب عدم الردّ على باسيل، حتى لا يُعطى مادة بحاجة إليها لرفع مستوى خطابه، وتعبئة جمهوره. كما أن خطابات باسيل الهجومية لا تتوجه إلى الفلسطينيين حصراً، بل هي تضرب بكل اتجاه، كما يقول أصحاب هذا الرأي. أما الرأي الثاني، فيجد أن عدم الرد سيساعد في دفع قوى مسيحية أخرى لمجاراة باسيل في هذا الخطاب. ويعطي مثلاً القوات اللبنانية، التي لم تنخرط، على الأقل بعد عام 2005، بأي خطاب عنصري ضد الفلسطينيين، فإنها ربما تُحرج، وتُدفع لتبني خطاب باسيل. ويضيف أصحاب هذا الرأي أن المطلوب تطوير الحوار مع "القوات اللبنانية"، والذي بدأه السفير عباس زكي عام 2007، لتعميم التفاهمات وقنوات الحوار مع الساحة المسيحية واللبنانية بشكل عام.

الكلمة أشدّ وقعاً على الشعب الفلسطيني، ربما أكثر من أي شيء آخر. لذلك، مثلاً، أقسى ما حفظه بعد الحرب الأهلية هو تصريحات عنصرية بدءاً من نهاية عام 1992 حين وصف النائب نقولا فتوش المبعدين الفلسطينيين بـ"النفايات السامة". وهذه ليست صفة خاصة بالشعب الفلسطيني. فعالم سيكولوجيا الصغار، النمسوي الأميركي برونو بتلهايم، والذي أمضى فترة زمنية سجيناً في المعسكرات النازية، يورد أن السجناء كانوا يكثرون من احتقار الحراس الذين كانوا يذلونهم أو يهينونهم لفظياً أكثر من أولئك الذين كانوا يضربونهم أو يقتلون السجناء. بعض عبارات باسيل حول الفلسطينيين تستقر في الجانب المظلم من الذاكرة الفلسطينية.

بدأ هذا الأسبوع عرض فيلم البرج (The Tower) بعدد من المناطق اللبنانية، للمخرج النروجي ماتس جرورد. يتحدث عن مخيم برج البراجنة، ويأتي على ذكر العنصرية المصوّبة على الفلسطينيين. هل هذه هي الصورة التي يريدها العنصريون الجدد للبنان؟ ما يجري هو انقلاب على روح بيروت وتاريخها، بيروت المنفتحة على العرب والعالم. روح بيروت "ست الدنيا" التي يغازلها شعراً نزار قباني السوري، بيروت النجمة والخيمة الأخيرة للشاعر الفلسطيني محمود درويش، الذي تمنى شعراً أن يأخذ من بيروت بيروت ليوزّعها على المدن. التقدم الذي شهده لبنان يوماً يُدين به إلى هذه الروح، ماذا يبقى منه إذا فقد هذه الروح؟  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها