السبت 2019/05/18

آخر تحديث: 21:56 (بيروت)

ربما ظُلم سعد الحريري

السبت 2019/05/18
ربما ظُلم سعد الحريري
اختار الحريري "التسوية" بعد تيقّنه أن مشروع مواجهة إيران قد انتهى (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease
يوم أعلن الرئيس سعد الحريري، أن السياسة لا تطعم خبزاً، وأنه يجب التركيز على الاقتصاد، كان يعبّر عن حقيقة أصبحت كامنة في داخله، كرّستها تجربته السياسية في العام 2005. تلك القناعة التي وصل إليها رئيس تيار المستقبل، كلّفته الكثير، وعلى أكثر من صعيد. كلّفته مواجهات وخسارات متتالية، واستنزافاً مالياً، وإبعاداً عن السلطة لسنوات. وبما أن مبدأ تأسيس الحزب السياسي يفترض الوصول إلى السلطة، فإن ذاك "الابعاد" يوضع أيضاً في خانة الخسارات. وفي مرحلة ما بعد تبلور قناعته بـ"التسوية" وتطبيقها من خلال التنازلات التي قدّمها بانتخاب الرئيس ميشال عون، تكبد الحريري أيضاً المزيد من الخسائر الشعبية، والانتخابية، والسياسية على صعيد الحلفاء، ومن كانوا في صفوف 14 آذار. إضافة إلى خسارة بعض من الصلاحيات، كان على علم أن الدفاع عنها قد يكلفه المزيد من الخسائر، ففضّل التساهل.

خسائر مديدة
عشر سنوات من الخسائر اكتشف فيها الحريري خيانة السياسة له. ووجد نفسه بين خيارين: إما الاستمرار في التصعيد السياسي مقابل خسارة المكتسبات السلطوية والابتعاد عن المشهد، أو الذهاب إلى خيارات تسووية جديدة وكثيرة، تمحورت حول تقديم تنازلات تحافظ على الوجود والدور وتعزز المكتسبات، على قاعدة السير بواقعية، بمعزل عن الشعارات الكبيرة.

يتعرّض الحريري للجلد، منذ سلوكه مسار التنازل بتسوية العام 2016. ورغم كون الانتقادات التي يتعرّض لها الرجل محقّة، إلا أن النظر بمنظور أوسع لواقع رئيس الحكومة، ومشاكله السياسية وغير السياسية، يوفر المبررات الملائمة لخياراته. فهو يتحمّل جزءاً من المسؤولية بالتأكيد، لكن لا يمكن تحميله أكثر مما لا طاقة له على تحمّله. شاءت السياسة أن يكون ابن محور ابتلى بالهزائم السياسية، أو بعدم وجود رؤى سياسية بعيدة المدى، تحفظ الدور والموقع والحلفاء. فكان في دفاعه عن نفسه وعن وجوده ودوره السياسي، ملزماً بتقديم المزيد من التنازلات، وإبرام التسويات، ولو كانت على حساب بعض الثوابت، أو الحلفاء القدامى كوليد جنبلاط وسمير جعجع، ومختلف مكونات قوى 14 آذار. لأنه يعتبر أن هؤلاء غير قادرين على تحقيق ما يريدونه ويريده الحريري سياسياً، ولهم جميعاً في تجربة انتخابات العام 2009 مثالاً، عندما حققوا انتصاراً ساحقاً في الانتخابات النيابية، لكنهم لم يتمكنوا من ترجمته في الحكم.

مراحل الانقلابات
هذه هي النسخة الجديدة من الحريري، التي أعلن عنها بلسانه:" الحريري 2018، غير الحريري 2008." هذه النسخة تقوم على أساس الحد من الخسائر، والحفاظ على الوجود، لا سيما أن تجربة المعاندة، قادته إلى منفى قسري بعد اسقاط حكومته في العام 2010، بالتالي لا يريد تكرار ذلك. ويعلم أن انتظار تغيّر موازين القوى لن يجدي نفعاً، لأن المسار بالنسبة إليه كان واضحاً، منذ النظرة السعودية المنقلبة على نفسها في العام 2009. "انقلاب" أدخله في لعبة السين سين، وسط افتقار كامل لأي رؤية سياسية قابلة لحمايته وحماية حلفائه. فسلّم الجميع لبشار الأسد مستندين على نظرية السعي لاستقطابه واخراجه من الحضن الإيراني، من دون الاستناد إلى حفظ خط الرجعة، أو احتساب عدم تحقيق المبتغى. وجد الحريري نفسه حينها متروكاً على قارعة الطريق، ما سهّل الانقلاب عليه، واسقاط حكومته.

طوال فترة غيابه عن الحكم، كان الحريري مجرّداً من مقومات الصمود والبقاء السياسي. قُطع عنه الدعم المالي بشكل خانق، وعانى لسنوات في شركة سعودي أوجيه، التي كانت الرافد المالي الأساسي لجميع مؤسساته في لبنان بما فيها تيار المستقبل. وبعد أن استفحلت الأزمة المالية طوال السنوات التي سبقت العام 2016، اتخذ قراره الانقلابي بالسير بترشيح سليمان فرنجية ثم ميشال عون لرئاسة الجمهورية. وقد كان ملزماً بالسير في هذا الخيار للحفاظ على دوره السياسي، فكانت التسوية واضحة: عون للرئاسة والحريري لرئاسة الحكومة، مقابل التسليم لحزب الله بإدارة البلد سياسياً وأمنياً وعسكرياً. فحقق حزب الله ومن خلفه ايران الانتصار السياسي في لبنان، والذي سمح لهم بالادعاء أن بيروت أصبحت من بين العواصم العربية التي تخضع لسيطرة طهران.

الرهان على الأميركيين
لا يمكن تحميل هذه المسؤولية حصراً للحريري، بل إلى المحور الذي ينتمي إليه بكليته، والذي تلقى صفعة أكبر من صفعات الحريري، يوم توقيع الاتفاق النووي بين إيران والغرب. واليوم هناك خشية من تكرار تلك "التسوية"، التي هي عبارة عن مسار من غياب الخطة السياسية وتكريس الفراغ الذي تعمل إيران دوماً على تعبئته والتسلل من ثغراته. فقبل سقوط لبنان كاملاً في القبضة الإيرانية، كان قد سقط العراق، حيث تكاملت فيه الجهود الأميركية والايرانية بشكل غريب. وبعد العراق كان سقوط سوريا، وبعدها اليمن. وعليه، من الظلم تحميل سعد الحريري مسؤولية ما حصل في لبنان، رغم أنه يتحمّل بعضاً من المسؤولية بسبب الافتقاد لأي خطة سياسية، أدت إلى مراكمة الخسارات، تماماً كما هو حال افتقاد العرب لأي خطة سياسية لمواجهة النفوذ الإيراني، والاكتفاء بالرهان على الأميركيين الذين لا يتوانون عن توجيه الصفعات مرّة تلو الأخرى، وليس آخرها الضربات العسكرية التي طالت بعض دول الخليج، مقابل احجام الأميركيين عن أي ردة فعل. الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان واضحاً في أيار العام 2016، حين قال إن بلاده لن تدافع عن حلفائها بل عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم.
قبل أيام من حصول عمليات التخريب بناقلات النفط وخطوط أرامكو، نُشر مقطع فيديو لترامب يتحدث فيه عن أنه يتلقى الأموال من المملكة العربية السعودية، ودول الخليج لقاء توفير الحماية لهم. فأين تلك الحماية بعد العمليات التي حصلت؟ المشكلة في مراكمة هذه الهزائم، تبقى في افتقاد أي مشروع سياسي، مقابل الرهان الكامل على الأميركيين، وهذه كانت أيضاً مصيبة قوى 14 آذار في لبنان.. بينما تتميز إيران في التأسيس لمشروعها، والعمل على تجميع أوراق القوة إلى أن تحين لحظة التفاوض والمساومة،والاستثمار السياسي.

الحريري بنسخته الجديدة
يوم اتخذت الإجراءات الخليجية العقابية المتشددة بحق لبنان في العام 2015، أيام حكومة الرئيس تمام سلام، تحت عنوان أن لبنان لم يستطع مواجهة حزب الله، والدولة لم تتمكن من منعه عن المشاركة في حروب المنطقة، ثمّة من استغرب في لبنان متسائلاً عن سبب تحميلهم المسؤولية، خصوصاً أن هذا البلد الصغير لن يكون قادراً على مواجهة إيران، وسط فشل العرب مجتمعين بذلك. وسقوط بيروت لم يكن إلا نتاج لمسار بدأ مع سقوط بغداد ودمشق وصنعاء.
قد تكون اللحظة السياسية للعام 2015، التي أفضت إلى توقيع الاتفاق النووي بين إيران والغرب، أكثر ما ألهم الحريري على وجوب التعاطي بواقعية مع الواقع الجديد. وعرف الحريري أن الأمور ستذهب الى تعاون إيراني غربي، مهما مرّت العلاقة بالتصعيد أو الخلاف. عندها فقط ذهب الحريري إلى تلك التسوية، لعلمه أن مشروع مواجهة إيران قد انتهى، ولذلك تم تحييد الملفات الخلافية حول سلاح حزب الله، وغيرها من الأمور الخاضعة للتجاذب السياسي.
قرأ الحريري هذه التحولات باكراً. وغالباً ما دارت أسئلة في لبنان حول ذهابه بعيداً في التحالف مع عون وحزب الله، على حساب جنبلاط وجعجع. وغالباً ما كانت تتركز الأسئلة عن الموقف السعودي من تصرفات الحريري. لكن، لعله وحده يمتلك الجواب بأنه لن يكون لخياراته أي ردة فعل سعودية، فمضى في طريقه. وليس تشديد الرئيس الأميركي على الذهاب إلى حوار مع ايران بعد كل التصعيد، إلا خير دليل على ما يفكّر فيه الحريري، ويسعى إليه لحماية وجوده ودوره بواقعية، بعيداً من الشعارات السياسية. وهنا ربما يكون الحريري قد ظُلم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها