الإثنين 2019/05/13

آخر تحديث: 00:48 (بيروت)

البطريرك الكاردينال صفير: أيقونة ذاكرتنا وتاريخنا

الإثنين 2019/05/13
البطريرك الكاردينال صفير: أيقونة ذاكرتنا وتاريخنا
ولادة لبنان الكبير والبطريرك صفير.. ولادتان متزامنتان ومتوائمتان على المعنى والرسالة والقدر (Getty)
increase حجم الخط decrease
في خريف العام 2000، بعد بيان المطارنة الموارنة الشهير، ومصالحة الجبل، وحضوره اليومي.. قررت المجازفة بكتابة مقالة عن البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، في الجريدة التي كان يملكها الرئيس رفيق الحريري. وكانت المجازفة هذه مقرونة في ظني بأن هناك حلفاً سرياً قد انعقد بين البطريرك والحريري ووليد جنبلاط، بوجه الوصاية السورية. وأن معارضة وطنية عابرة للطوائف تتشكل في مدار هذا الحلف.
فللمرة الأولى، استطاعت بكركي أن تصوغ خطاباً لا يعبّر عن "هواجس المسيحيين" أو "ثوابتهم"، بل عن طموح لبناني جامع، بلغة لا يكون فيها هذا الـ"لبنان" إلا لجميع مكوناته وشبيهاً بتنوعهم. لغة سيكتبها البطريرك صفير وسنقولها جميعاً في ساحات ربيع 2005. 


اليوم، في لحظة رحيله، أستعين بمناخات تلك المقالة:

"مجد لبنان أعطي له". وهو بدوره ما هجس إلا بإعادة المجد إلى لبنان. إنه البطريرك السادس والسبعون لأنطاكية وسائر المشرق للكنيسة المارونية، مار نصرالله بطرس صفير.

في نيسان العام 1986، وخلفاً للبطريرك مار انطونيوس بطرس خريش، انتخبه المجمع الماروني سيداً جديداً لبكركي، حين كان لبنان والموارنة في أكثر أوقاتهما شدة وخوفاً على المصير. في تلك اللحظة، تسلم البطريرك الجديد السدة الرسولية بيد، وحمل صليب المسيحية في هذا الشرق، صليب الألم الثقيل، بيد أخرى. هكذا ورث البطريرك صفير القوة والضعف. قوة الإيمان وضعف الإنسان.

ورث أيضاً عظمة الكنيسة وعذابات المسيحيين هنا في الوديان والجبال. ورث نكبة الحرية المضنية، وعصا الرعاية المتعبة. لكنه كان الصخرة والضمير. كان الصلابة التي تشهد للحق وحده، وكان الأخلاق التي تقول الحقيقة وحدها.

هو الدمث، المرهف. وهو الذي كانت كلمته صلة الوصل بين الدين والدنيا. كان رأيه بمثابة حكم العدالة في السياسة. ربما لهذا السبب أساء إليه بعض المسيحيين كما أساء فهمه بعض المسلمين.

ابن كسروان (ريفون) الذي ولد في العام 1920، تزامنت ولادته مع إعلان دولة لبنان الكبير. ولادتان متزامنتان ومتوائمتان على المعنى والرسالة والقدر. كان البطريرك صفير، باستمرار، لاهوتياً من غير إنطواء. هو اليسوعي الضليع باللغة العربية، المدبّر لأكثر تعابيرها تورية ومجازاً ولأفضل مفرداتها مباشرة ودقة. ذاك ما جعل لغته بالغة الإصابة، مقتصدة. لذا، فهو إذ يعرف ما يريد ويدرك ما يريده الآخرون، كان يعرف تماماً كيف "يقول" ما يريد.

إنه المعلم الصبور والملحاح والمتفهم. بقي سداً لم يتصدع أمام التيارات العنيفة، التي هددت فكرة لبنان (الفكرة الأكبر من الجغرافيا والسياسة). فتعلمنا معه أن الحرية هي الأثمن، وأن فيها الوطن، ومن دونها دونه.

جميعهم كانوا يرهبونه، يخجلون منه، هو المتكبر على عيوبهم، أولئك الذين يفترضون أنفسهم قادة وساسة. فازدراؤه الخفي لهم، ليس في انفعالاته ولا في كلماته، بل في قدرته المتواصلة على المسامحة والغفران والتعالي. هكذا جعل "الغبطة" منعقدة على التواضع، كأنما حضوره الديني كان بياناً سياسياً متقشفاً. إصراره المكين على الصيغة التاريخية للكيان اللبناني، وبمساندة القوة المعنوية وحدها، جعله رمز "معارضة" فعلية حين كانت الوصاية تعمل على نفي كل معارضة. ثم ان التزامه بما التزم به نواب الأمة يوم اتفاق الطائف، جعله بانحرافهم عنه، أمين سر للوفاق الوطني بامتياز.

عندما كان يقول "نحن لا نطلب المستحيل" كان يعرف انه يطلب ما لا يتجرأ الآخرون على البوح به. وكأنه كان في تلك الأوقات العصيبة "يفشّ خلق" غالبية اللبنانيين، الطامحين إلى الاستقلال والحرية.. بوجل واستحياء!

حتى صمته كان مقلقاً للذين يخشون صوته. كانت سياسته مداومة على معادلة أن لبنان وحده لا يستطيع أن يصنع السلام ، ولا يستطيع وحده أن يخوض الحرب. وما بين "النصوص" و"النفوس" حوّل الطائفية السياسية من بديهة سلبية التركيبة، إلى بدعة إيجابية خلاّقة، بجعلها خارج مزايدات الوطنية أو مناقصات المحاصصة. فوازن بين الشعور بالحرمان هنا والشعور بالغبن هناك، بين الشعور بالإحباط هنا والشعور بالتهميش هناك.. كأنه في ذلك موزع العدل من غير اعتدال. هو الصريح حد التطرف، هو العنيد الشديد العطف.

مرات كثيرة كان يخرج من ثيابه إذ يرى رياء السياسيين وعجز المسؤولين وصغائر الزعماء. هو الذي بلع أمواساً كثيرة ولم يجرح أحداً. لم يخاصم ولم يعادِ. كان العتب وحده أقوى أسلحته.

كانت كلمته هي الوزن في أوقات انعدام الأوزان. فـ"لاعلاقته" بدمشق، كانت كافية ليضطرب النظام السوري يومياً وهو الموغل في تحكمه بلبنان. وحتى عندما كان يغفل أو يتغافل عن مسألة أو حادثة، فغالباً ما كان يفعل ذلك بداعي الخوف على لبنان. هذا الخوف الذي بقي مقيماً في قلبه، وما ودّ أن يعممه أو يكرّسه. فكان أوقات الشدة يفاجئ الجميع إذ ينبش التفاؤل الحقيقي من لبّ التشاؤم.

استطاع أن يقود "البيئة" المسيحية، حين تشرذمت قياداتها، من "الهزيمة" إلى "الإحباط" إلى "الحضور" و"التفوق" مرة ثانية. تنكّب المهمة بدأب وإيمان وشجاعة. فصان لبنان ومسيحييه خصوصاً من مصير فلسطين الضائعة أو يوغوسلافيا المقسّمة.

لهذا كله، زرع في المسلمين اللبنانيين شيئاً من المسيحية، وبثّ في المسيحيين شيئاً من الإسلام. كأنه كان صانع المصافحة الصعبة، بفصاحته السهلة. معه اقتربت الأرثوذكسية من كاثوليكيته، ولاصقت الكاثوليكية فيه مشرقية الأرثوذكس. هكذا، معه كان السينودس ممكناً، كما هو، أهم وثيقة روحية زمنية منذ إعلان الاستقلال.

شجاعته الأدبية، أفسدت أكثر من "لعبة"، وفرضت أكثر من تسوية، كأنه "حامي الدستور" وراعي الوفاق وضامن الميثاق.. ولأنه كان الغيور في زمن الاستهانة والإستخفاف والتنكر، وضع لبنان في قلب الفاتيكان (والفاتيكان هو "قلب" العالم).

انتظر وانتظرنا معه الرجاء، الأكبر من انتخابات أو تسويات، انتظرنا معه أن تعود السياسة غريزة أخلاقية، هو الذي كان يحذرنا أن "النظام السلطوي الحديث تتأصل جذوره في إنكار كرامة البشر"، فعلّمنا أن ننحاز للكرامة والحرية. علمنا "المعارضة" الجذرية. سيد بكركي الذي استقال من مهامه، نرفعه اليوم بلحظة رحيله أيقونة لذاكرتنا وتاريخنا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها