منذ خمسين عاماً إذاً، فرضت حركة "فتح" و"منظمة التحرير الفلسطينية"، بالتحالف مع اليسار اللبناني وقوى سياسية ممثلة للطوائف المسلمة، أمراً واقعاً جديداً في لبنان. انتزعت من الدولة ما يسمى بـ"اتفاق القاهرة"، الذي "شرّع" العمل الفلسطيني المسلّح عبر الحدود اللبنانية في منطقة العرقوب. وبعدما كان لبنان البلد الوحيد الذي لم يشارك في حرب حزيران 1967، من بين الدول المحاذية لإسرائيل، تحوّل إلى ميدان لحرب عصابات كانت تشنّها ميليشيات المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل. هكذا، لم يعد لبنان بحكم الواقع، بلداً يدور بشكل كامل وشامل في الفلك الأميركي ـ الغربي.
طبعاً، حاولت واشنطن تجاوز هذه الخسارة. دعمت عهد سليمان فرنجية والجيش، على أمل تمكّنهما من إنهاء الحالة الفلسطينية المسلحة، على غرار التجربة الأردنية أو ما يعرف بـ"أيلول الأسود" عام 1970. لكن خاب أملها عام 1973. حينها، لم يتمكن الجيش اللبناني من نسخ السيناريو الأردني. حسابات التوازن الداخلي والضغوط العربية حالت دون ذلك. امتعض كثيراً مهندس السياسة الخارجية الأميركية، هنري كيسنجر، من هذا الفشل. راح يبحث عن خيارات بديلة من أجل إنهاء الحالة الفلسطينية. واظب على إعطاء الضوء الأخضر الأميركي للضربات العسكرية الإسرائيلية ضد لبنان وضد الفلسطينيين فيه. لكنها لم تكن كافية للوصول إلى تلك الغاية.
الاستعانة بالسوريين
بعد اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975، لم تجد واشنطن التي اغتيل سفيرها في لبنان، فرنسيس ميلوي، في حزيران 1976، أفضل من "البندقية" السورية لضبط "منظمة التحرير الفلسطينية". لذلك، دعمت التدخل العسكري السوري في ربيع 1976. وأدى ذلك إلى إنهاء النفوذ الفلسطيني فقط في بيروت وجبل لبنان. ظلت القوى الفلسطينية تنعم بحرية التحرك في المناطق الواقعة جنوبي نهر الأولي. لأن ما يسمى بـ"اتفاق الخطوط الحمر" الضمني بين سوريا وإسرائيل، برعاية أميركية، كان يمنع عبور القوات السورية خط نهر الأولي لمتابعة مهمة "ترويض" الفلسطينيين.
في المحصلة، لم تطوِ واشنطن صفحة خسارتها. فقد حلّ السوريون محل "منظمة التحرير". وأساساً، لا يمكن التفكير بالربح، وفقاً للمنظور الأميركي، إلا بعد إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح بالكامل. من هنا، استفادت واشنطن من "العصا" الإسرائيلية مرتين، الأولى عام 1978 والثانية عام 1982، للحصول على النتيجة المرجوة. وكان لها مرادها. وبعد وساطة اضطلع بها المبعوث الأميركي الشهير فيليب حبيب، خرجت "منظمة التحرير الفلسطينية" مهزومة من لبنان في أيلول 1982. إلّا أن هذا البلد تحوّل عملياً إلى منطقة لتقاسم النفوذ بين إسرائيل وسوريا.
فشل استعادة النفوذ
اعتباراً من خريف 1982، وضعت الولايات المتحدة كل إمكاناتها الدبلوماسية والعسكرية من أجل إعادة لبنان إلى دائرة نفوذها. أرسلت جنودها إلى بيروت في إطار "قوات المتعددة الجنسيات". راهنت مجدداً على مبعوثها فيليب حبيب، الذي حاول (من دون جدوى) تطبيق خطة، تهدف لإخراج الإسرائيليين والسوريين من لبنان. بيد أن امتناعها عن الضغط على حليفتها إسرائيل لإلزامها بالانسحاب، تسبب آنذاك بفشل تلك الخطّة. فبقاء الاحتلال الإسرائيلي شكّل ذريعة استخدمتها سوريا لإبقاء جيشها. كما أتاح لها الفرصة لتقديم الدعم إلى مجموعات المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال. ناهيك عن أنه فتح الباب واسعاً أمام تعاون دمشق وطهران، ما ساهم في نهاية المطاف بتعزيز النفوذ السوري ـ الإيراني في لبنان، منذ تلك الحقبة التي تبددت خلالها الأوهام الأميركية.
مُنِيت واشنطن عام 1983 بهزيمة قاسية في بيروت. تم تدمير سفارتها في العاصمة اللبنانية، في شهر نيسان. ثم استُهدفت قاعدة عسكرية لها بتفجير أدى إلى مقتل 241 جندياً أميركياً في تشرين الأول. اعتبرت واشنطن أن طهران هي من يقف وراء هذه الصفعة المهينة. وسرعان ما سحبت قواتها مطلع العام 1984، بعدما لمست استحالة إعادة لبنان إلى مرحلة ما قبل 1969. هذا التصرف كان بمثابة اعتراف بالهزيمة، تبِعه تسليم بشروط المنتصر. والأخير يتمثل في كل من سوريا وإيران اللتين نجحتا بتجاوز تبايناتهما على الساحة اللبنانية في ثمانينيات القرن الماضي، لمصلحة سياسة مشتركة أدت إلى تكريس معادلة لم تتمكن واشنطن حتى الآن من تغييرها.
يتعلق الأمر بتفوّق قوة حزب الله في لبنان، وما يترتب عن ذلك من نتائج سياسية ودبلوماسية وعسكرية، ومن خيبات أميركية. ذلك أن الولايات المتحدة بذلت جهوداً حثيثة لوضع حد لهذا الحزب وإضعافه. جعلت من نزع سلاحه مطلباً أممياً، مع صدور القرار 1559 في أيلول 2004. دعمت حرباً إسرائيلية مدمرة عام 2006، بهدف فرض هذا المطلب بالقوة. وكل ذلك لم ينفع. بل أتت النتيجة عكسية مع تزايد قوة الحزب لاحقاً. اليوم بدأت واشنطن بالضغط عليه بواسطة سياسة العقوبات المالية. افتتحت بالتالي جولة جديدة من "الكباش" معه. وما زيارة الوزير بومبيو إلا تعبيراً عن تعامل واشنطن بكل جدية مع هذه المبارزة. من المبكر التنبؤ بهوية الفائز. لكن على الأرجح لن يكون حزب الله خاسراً، ما يعني أن المعادلة المخيبة لآمال الدبلوماسية الأميركية في لبنان قد لا تتغير.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها