السبت 2019/12/28

آخر تحديث: 00:04 (بيروت)

آخر نسخة حريرية

السبت 2019/12/28
آخر نسخة حريرية
أخطأ الحريري في طموحه إلى تشكيل حكومة "على هواه" (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease

قد يكون سعد الحريري نقطة ختام الظاهرة التي أطلق عليها اللبنانيون إسم الحريرية. سادت التسمية على الرغم من أن صاحبها الأصلي تعجّب منها في البداية، ثم أعجب بها لاحقاً.

وما هو مُثار الآن، أي في اللحظة الوطنية المأزقية الحالية، ليس مصير الحريرية التي قذفها الشارع خارج أولوياته، بل المطروح قدرة آخر عنقودها السياسي على الصمود في موقع الاعتراض من داخل التشكيلة السياسية، بعد أن استبعد عن التصدي لمهمة الإنقاذ التي افترض أنه قادرٌ على النهوض بأعبائها، وما نجم عنها من تداعياتٍ خطيرة، على صعيد الأمن الاجتماعي اللبناني العام. هذا، في الوقت الذي تشير كل سيرة التشكيلة الحاكمة والمتحكمة الحالية، إلى أن هذه التشكيلة لا تستطيع، إن ارادت، أكثر من تجميل قبحْ نظامها، ولن تذهب أبعد من ترميم أجزاء النظام المكسورة، من الآن وحتى أجل معلوم أو غير معلوم.

في السياق السياسي المأزوم هذا، تحضر حسابات الحريري الوريث حول مستقبله السياسي، ولا تخطئ عين مراقبة أن مصير الرئيس المستقيل ارتبط ارتباطاً وثيقاً بوجوده في موقع الرئاسة الثالثة، وأن قدرته على النهوض عن كرسي المنصب، ومن ثمَّ التخفف من أعبائه، أمران لا يستطيعهما الحريري الإبن اختيارياً، لأنه بالموقع الحاكم كان، وبه يستمر "كائناً"، بعد أن فقد الكثير من مقومات "كينونته" الرسمية، على امتداد سنوات طويلة من سياق التراجع السياسي الشعبي المرير.

مناورة والتفاف
وما بدا للحظة أنه ارتفاع إلى مستوى الاستجابة لضرورات "اللحظة" الشعبية، انكشف لاحقاً عن استقالة رسمية تضمر العودة بشروط معدّلة. على درب الإضمار، ناور الحريري، وكانت مناورته مكشوفة، لذلك أمكن للاعبين الآخرين أن يردوا عليه بمناورات التفافية، وأن يناوشوه من الحركة، وأن يؤجلوا المعركة الصدامية معه إلى حين تهيئة وتجهيز الميدان الملائم لهذه المعركة. وقد كان لمن كانوا في موقع الدفاع الانتقال إلى الهجوم، فأوصلوا الرئيس المهاجم إلى ما يشبه حالة الحصار، وهم وإن لم يطبقوا طوق الحصار من حوله لفترة، فإنهم تركوا ثغرة للتراجع، ربما لأنه لا مصلحة سياسية ترتجى من إيصال الحريرية الحالية إلى حدود الهزيمة الشاملة، بل يكفي كسر إرادتها وسحبها من ميدان المواجهة إلى الخطوط السياسية الخلفية. المواجهة بالمناورات المتبادلة أفضت إلى هزيمة سعد الحريري بتكليف سواه، وما بدا أنه دعم سابق له من حلفائه وخصومه في الحكم، لم يتجاوز القول المعروف "عن الحبل الذي يدعم عنق المشنقة". وعليه، فإن الحريري الذي تخلى عن اسمه كرئيس، لم يقترح اسم غيره، وباشر انسحاباً لا يبدو منظماً حتى الآن، ما يجعل سلوكه حالياً، بمثابة نصف انكسار، وعلى النجاح في الدفاع من وضعية نصف المنكسر، تترتب معطيات النجاة من وضعية الإنكسار السياسي الكامل.

ما الذي يدفع إلى هذه الخلاصة؟ ما يدفع هو كل سياق الاشتباك السياسي الذي ما زال مندلعاً حول السلطة التنفيذية التي يتقاسمها رئيس الجمهورية مع رئيس الحكومة، وسياق الاشتباك الذي تديره الشيعية السياسية مع السنية السياسية، في الإطار الداخلي، وبالارتباط مع كل الإطار الإقليمي المحيط بلبنان. إذن، كان الأمر وما زال، محمولاً على الإضعاف المتزايد لموقع رئاسة الحكومة، والسعي إلى استقرار "طيف" الحكومة الاجتماعي في الضعف، وتثبيت نتائج مسار تراجع نفوذ حاضنة الحريري المحلية والعربية. هذا التراجع الذي استمرَّ مطرداً منذ أشرف سعد الحريري على إدارة شؤون سنوات الحكم العجاف، وحتى اختيار المكلف الحالي، الدكتور حسان دياب.

ختام تقويمي
لقد تمسَّك سعد الحريري بشرط تشكيل حكومة من ذوي الاختصاص، ورفض مشاركة ذوي السياسات. الحصيلة تقول بالوضوح الملآن، أن الحريري أخطأ في حساب التوازنات، وأخطأ في تقدير موازين القوى، وأخطأ في طموحه إلى تشكيل حكومة "على هواه". لقد نسي الرئيس المشترط، أو أنه لم ينتبه، إلى أن ما يطلبه يعادل الانقلاب السياسي على مجمل التشكيلة السياسية. تحضر أسئلة من قبيل: من أشار على الحريري بذلك؟ كيف استحضر المستشارون الحسابات؟ على من كان الرهان؟ سنستبعد سلفاً، افتراض استناد سعد الحريري ومستشاريه إلى ضغط التحرك الشعبي المعارض، فهؤلاء ليسوا من أبناء الحركة الشعبية، والحريرية السياسية عموماً، لم تكن من هؤلاء الأبناء. وقائعياً، فشل "الانقلاب" الحريري المحتمل، وكان الرد انقلاباً مضاداً عليه، كشخص رئيسي في بنيان العهد الحالي، وكرمزٍ متقدم على أقرانه من رموز السنيّة السياسية الآخرين.

التفاتة ضرورية إلى موقف القوات اللبنانية، وإلى موقف التيار العوني، فلقد أثبتت التطورات أن ثوابت الطرفين ظلَّت على أصالتها في توظيف الاستفادة من خلاف "الإسلام السياسي"، هذا الذي أخذ مجتمعاً مما يعتبره فريقا المسيحية السياسية حقوقاً للمسيحيين. حركة الحزب والتيار لم تموهها السياسات المتحركة، وكل منهما عاد إلى حساب الحقل الذي اختلف هذه المرّة مع حساب البيدر.

لا ضرورة لنصح سعد الحريري الآن، لكن من ضمن الحسابات الحقيقية، يمكن القول للرئيس الذي لم يستقر على حساباتٍ جليّة، ولا على نهجٍ اعتراضي رسمي واضح، حضرة الرئيس: هل تستطيع سياسةً واضحةً بديلة، من ضمن اللعبة التقليدية اللبنانية! عليك أن تستطيع ذلك، هذا إذا أردت ألاَّ يكون ابتعادك، أو إبعادك عن موقع الرئاسة الثالثة، آخر نسخة حريريةٍ سياسيةٍ فاعلة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها