الخميس 2019/12/19

آخر تحديث: 00:15 (بيروت)

السلطة تُشيّد جدران حربها الأهلية المتخيّلة

الخميس 2019/12/19
السلطة تُشيّد جدران حربها الأهلية المتخيّلة
تسلّل الخوف إلى نفوس أهل السلطة.. خوف سيكبر ويكبر (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

شيّدت قوى الأمن صباح اليوم الأربعاء حيطاناً إسمنتية على مداخل ساحة النجمة، من ناحية خندق الغميق. المنطقة التي شهدت منذ أيام تصاعداً ملحوظاً في نسبة التوتر. وللرد على عدم قدرة هذه القوى على مواجهة من هم فوق القانون، ذهبت إلى خيار "مدني"، أي خيار قد تعتمده قوى مدنية لرد بعض العنف عنها. عنف لا تستطيع مواجهته لأنها لا تعترف به أساساً، فيما الدولة بقوتها الضاربة أمنياً، اعترفت بضعفها وهربت إلى الأمام لتبني حائط تماس جديد، هو تماماً ما هي قادرة عليه، وما تبرع به.  

ذهنية الأمنيين
سُيّجت مداخل اللعازارية ورياض الصلح بـ"بلوكات باطون". جدران عازلة، الهدف منها من وجهة نظر الأمنيين "حفظ النظام وقطع الطريق أمام أي احتكاك بين الطرفين". احتكاك بين الطرفين؟ هذا ما يقولونه، إلا أن واقع الأمور تشي بأن ليس هناك طرفاً آخر. هناك مجموعات حزبية مُنظمة تمارس الترهيب بحق مدنيين في خيم مدنية يرفعون شعارات مدنية. ليس هناك من يواجه هؤلاء أو من يريد أن ينزلق إلى ملعب أحزاب السلطة.

يريد الأمنيون فعلياً أن "يحصروا رقعة المواجهة مع شباب الخندق". من وجهة نظرهم هذا يساعد في ضبط الأمن أكثر فلا يعود العناصر الأمنية بحاجة لينتقلوا في عملية كر وفرّ وراء المعتدين، بل يحصروا رقعة المواجهة ليتمكنوا من السيطرة على الموقف. أيضاً، من الواضح أن الدولة في عز قوّتها!

كذلك، من جهة بلدية بيروت، قاموا بتركيب حواجز حديدية ليساعدوا أنفسهم في حفظ النظام، علماً أنهم ليسوا بحاجة في تلك البقعة إلى أي مساعدة، كونهم، كأمنيين، تصلهم مساعدة فرق منظمة من خندق الغميق وغيره من مناطق، هذا عدا عن قدرتهم غير المحدودة على ممارسة العنف المقصود من دون أي رادع، وهذا ما ظهر جلياً خلال عطلة نهاية الأسبوع. بمعنى أوضح، الدولة على قدر ما هي موحدة، تحتمي بالإسمنت من جهة وتلجأ إلى متطوعين مدنيين للدفاع عن موقع رسمي، عن مجلس النواب ورئيسه تحديداً.

فئة منبوذة
ما يحدث اليوم في وسط بيروت هو تجسيد لمشهد أوسع، هو على أرض الواقع، بناء متاريس إضافية بين السلطة والناس، كُل الناس. هذه السلطة، أقفلت وتُقفل على نفسها في كل مرة تستشعر فيها بالخطر. ميشال عون الذي يعتبر نفسه "بيّ الكل" حين سمع بأن التظاهر سيصل إلى بعبدا، سيّج منطقة بأسرها وحوّلها إلى ثكنة عسكرية، وهكذا فعل نبيه بري حين سمع صيحات الناس على مقربة من مكتبه في مجلس صار مسجلاً باسمه وممنوع أي حديث عن خلف له، لأن في ذلك استهدافاً لموقع الطائفة التي يُمثل، والذي يتحصن بنظره من خلال اللعب على وتر الانقسام الأهلي وما يُسمى بالميثاقية، تلك التي جعلت سعد الحريري يستشيط غضباً حين قررت القوات اللبنانية أن تمارس حقها الطبيعي في الامتناع عن تسميته في استشارات يُريدها معلبة سلفاً لصالحه.

هو الخوف الحاضر الأبرز أينما كان اليوم. الناس التي ملّت من كل هذه المنظومة وصار فعل مجاهرتها يخيف كل مسؤول، ويُشعره بأنه من فئة منبوذة صارت مستهدفة دائماً، من دون أن يُدرك من أين يأتي هذا الاستهداف، ولعلّ أهمية الثورة كما يراها ناسها بأنها "غير مرئية"، أي أن الخصم لا يستطيع أن يُصنفهم مع أو ضد، وهذا ما لم يكن حاصلاً في أي تحرك سابق. كل الناس صارت موضع شك بالنسبة لأي مسؤول، تصنيفهم ووضعهم في خانات محددة غير ممكن اليوم، هي ليست 14 و8 آذار، وهي ليست "إسقاط النظام الطائفي" وهي بالتأكيد ليست "طلعت ريحتكم". هي كل ما سبق ولا شيء مما سبق في الوقت نفسه.

السلطة الخائفة
أبعد من ذلك، كيف تخاف السلطة وما الذي يُشعر بعضها بالنبذ؟ يكفي أن يرى المرء فؤاد السنيورة يجتاز الشارع من بيته إلى الجامعة الأميركية ليحضر حفلاً، فيخرج على وقع هتافات الطلاب الرافضة لوجوده، وهو أحد أبرز رموز ما بعد الطائف. كذلك، يُشارك جبران باسيل "خلسة" في اجتماع في جنيف، فيستولي حارسه الشخصي على هاتف صحافي كان يوجه إليه بعض الأسئلة، فقط أسئلة. الخوف نفسه جعل وزير في حكومة يُسمّونها وحدة وطنية يُطلق النار في الهواء كي يعبر مجموعة من المتظاهرين على مقربة من مجلس النواب. نواب ووزراء صاروا يخشون الخروج من منازلهم بشكل علني، في حين تُرمى أكياس النفايات على بيوت من تسبب بغرق البلاد بها. اليوم، سلطة من رأسها إلى أصغر مستفيد منها، تخاف من مواطنيها. بيئات حزبية كانت إلى الأمس تعتبر نفسها عصية على الانهزام، صارت تخاف من خيم معتصمين في النبطية وصور وكفرمان. هذا واقع ما بعد 17 تشرين وكل ما قبل ذلك، تفاصيل.

في المقلب الآخر، "نحن الثورة الشعبية، وإنتوا الحرب الأهلية"، شعار يختصر المنحى الوطني الفعلي. ثورة تخطت مخلفات الحرب وتعتبر نفسها غير معنية بكل رواسبها وموروثاتها. يهجم شباب السلطة على ناس الثورة، فيردوا بالصمت، في تعبير واضح عن قرار صريح مفاده أنهم لا ينتمون إلى زمن الحرب. يندس متظاهرون معروفة أهدافهم بين الثوار، فيأتي الرد بأن كل فعل عنفي ينتمي إلى طبقة هم نبذوها، ومن يريد أن يمارس تلك الألعاب ليس منهم ولن يكون يوماً. هذا حصل أكثر من مرة، وسيحصل مجدداً، لأن الهدف جرهم إلى ساحة قتال تبرع فيها الميليشيات التي لم تخرج من الحرب، وأخرى نشأت في زمن السلم متكئة على خطاب الحرب الممتد إلى اليوم.

باختصار، السلطة تحاصر نفسها. تسلّل الخوف إليها. خوف سيكبر ويكبر، إلى أن يحين موعد الحقيقة. في المقابل، ثورة تُحاول أن تُحصّن نفسها، وتمضي، وليس أمامها أي خيار سوى الصمود إلى أن يسقطوا، جميعاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها