يانا سمراني عضو مكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني، الذي شكّلت الانتفاضة الحالية متنفساً له في إعادة لمِّ صفوف كثرة من محازبيه. رغم تناقضاته الكثيرة التي عصفت وتعصف في هذا الحزب، تمكن من التقاط أنفاسه، وظهر مشاركاً ومنظماً للتحركات الميدانية في معظم الساحات والمناطق، وفي التنسيق مع الناشطين والمجموعات السياسية والمدنية المنخرطة في الانتفاضة.
حزب يستعيد شبابه
ووفق حديث مطوّل لـ"المدن" مع عضو المكتب السياسي يانا سمراني، يستمد الحزب الشيوعي اللبناني قوته من كونه من الأحزاب العريقة في لبنان، ولطالما نزل إلى الشارع ضد السياسات الحكومية والمحاصصة والنظام الطائفي والزبائني. وهو حاضر في مناطق لبنانية كثيرة، من حلبا في عكار وطرابلس والكورة، إلى بيروت والجبل والبقاع والجنوب.. وفي الساحات كلها. وهو فاعل في كل هذه المناطق، سواء عبر الشيوعيين الذين لم يتركوا الحزب، أو عبر الشيوعيين القدامى، الذين عادوا إلى صفوف الحزب، بعد اندلاع الانتفاضة، أو عبر الأجيال الجديدة التي انضوت بالمئات في صفوفه في الشهرين الماضيين. وهم يقفلون المؤسسات العامة والطرق، وينسقون مع الناشطين والمجموعات على الأرض.
.. في الكورة وطرابلس
ويانا ابنة أميون في قضاء الكورة، والسيدة الوحيدة في مكتب حزبها السياسي، تشير إلى حيوية الشيوعيين وقدرتهم على التواصل مع المنتفضين. وتشدد على عدم تواصل الحزب مع الأحزاب الأخرى، بل مع جمهورها في المناطق. ففي الكورة شارك إلى جانب الشيوعي القوميون السوريون، وخصوصاً في أميون، في قطع الطرق قبل دعوة حسن نصرالله حلفائه للخروج من الساحات. وفي كفر حزير خرج جمهور "القوات" وقطعوا الطريق، بصفتهم من أبناء القرية ويشاركون مثل باقي السكان. وهذه حال جميع المناطق التي خرج فيها جمهور حزبي على الأرض. والشيوعي لا يستعيب هذا الأمر، بل على العكس رحب بهذا القطع الذي قام به الجمهور مع أحزابه التقليدية.
استعاد الشيوعيون حيوية كانت مفقودة في المناطق الشمالية وفق سمراني. ففي طرابلس ينشطون في مجموعة مؤثرة في الساحة. وطرابلس تقبع في حرمان مدقع، وفيها جمهور يساري قديم ابتعد عن المدينة ولجأ إلى السكن في مناطق مجاورة. لكنه بدأ بالعودة إلى ساحات طرابلس. وتصف يانا الوضع الحالي قائلة: "الحياة والنشاط يدبان مجدداً في مكاتب الحزب في الميناء وفي طرابلس، فباتت مكاتبه ممتلئة يوميا بالناس وبالشيوعيين القدامى والشباب الجدد".
غضب البيوت إلى الساحات
وتعتقد سمراني أن الناس باتوا يبصرون عورات النظام وفشل القيادات السياسية، ويعون أن الصراع في لبنان طبقي. أو أقله باتوا يرون "كلن يعني كلن" يشكلون طبقة أوليغارشية تسرق وتنهب البلد. فيما يشكل المواطنون طبقة مُستغَلّة تنتفض على الطبقة الأوليغارشية. وهذا فتح مجالاً لشكل جديد من الصراع، تأسس بعد انتفاضة 17 تشرين. ففي السابق كان الناس يغضبون في منازلهم. وهو الغضب الجماعي الذي فجرته الانتفاضة في ساحات لبنان، عاماً ومشتركاً في الشوارع والساحات.
لكن هل يعتقد الشيوعي أن الناس خرجوا على أحزابهم في هذه الانتفاضة؟
تعتقد سمراني أن ما شهدته الساحات لم يكن خروجاً فعلياً للناس على الأحزاب. لقد حصل رد فعل في بعض المناطق، ولم ينفصل الناس كلياً عن أحزابهم. لكن الوضع الاقتصادي أثر كثيراً. فالأحزاب كانت تعتمد الطرق الزبائنية في ربط قواعدها وجمهورها عبر التوظيفات والتقديمات المالية والخدماتية. وعندما شعر الناس بتداعيات الانهيار الاقتصادي، تخلوا عن واجباتهم تجاه أحزابهم.
على سبيل المثال ينضوي أهالي القرى في الأحزاب كواجب، بسبب تقديمها خدمات معينة لأفراد عائلاتهم. ورغم القناعة بفساد الأحزاب، وانتهاجها سياسات مضرة، كان الأهالي ينضوون فيها. وينتقدونها بشدة إلى جانب اعتبارها وسيطهم الأساسي للحصول على فتات من موارد الدولة وتأمين لقمة عيشهم. وظهر خلال الانتفاضة أن الناس شعروا بأن النظام سقط، وفقد قدرته على تقديم الدعم المادي وفي الوظائف.
إلى ذلك ترى سمراني أن العامل الاقتصادي ليس السبب الوحيد الذي أدى إلى فقدان الثقة بالأحزاب ونفور جمهورها منها. بل أيضاً الفشل المتراكم في جميع السياسات الاقتصادية والاجتماعية والمالية المتبعة. ويضاف إلى هذا أن جزءاً كبيراً من الناس يسير مع المنتصر. وعندما رأى الناس الجموع في الشوارع ماشوهم: "لكننا اليوم بتنا أمام مفترق طرق لبلورة الخيارات وأين سيسير اللبنانيون"، قالت سمراني.
شكل جديد للعمل السياسي
هل سيسيرون مع من يمتلك خيارات جذرية ضد السلطة، أم سينتفضون في فورة غضب، وهي مشروعة؟ أم سيقبلون بالخيارات المطروحة لإعادة تشكيل حكومة جديدة في الشكل لكن قديمة في المضمون؟ أم أنهم سيستمرون في المواجهة لتشكيل حكومة مستقلة وبصلاحيات استثنائية؟
هذه الأسئلة تدفع سمراني للقول: "ثمة حاجة لشكل جديد من العمل السياسي يجب أن يبدأ. باتت سيطرة الأحزاب التقليدية على بعض الشوارع واضحة، وهي محدودة. لكن في المقابل هناك جيل جديد لم يرتبط بهذه الأحزاب بعد: طلاب جامعيون وأساتذة، وفقراء وأمهات ومجموعات من كل حدب وصوب لا ينضوون في أي طرف سياسي ولا أحد يمون عليهم في النزول إلى الشارع، ولا يستطيع أحد تأطيرهم. التعويل عليهم في المرحلة المقبلة في المواجهة".
كيف ينظر الشيوعي إلى تراجع الموجة الشعبية؟
ترى سمراني أن المناطق ما زالت مستمرة في زخم تصاعدي، رغم الضعف الذي حصل في بيروت. فالهجوم الذي قام به حزب الله وحركة أمل على جسر الرينغ وفي عين الرمانة لم يكن بسيطاً. ورغم كونه بمثابة فيلم سيء الإخراج عن عودة الحرب الأهلية، لكنه أثر كثيرا على سكان العاصمة، وعلى مشاركة الناس في التحركات، وانعكس ضموراً وتراجعاً بسبب الخوف. أما في المناطق فتختلف الأمور لأن المواجهة بين أشخاص يعرفون بعضهم ويدركون طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تربط بينهم. وهي كانت مع الذين قطعوا الرينغ ولم تكن هناك نوايا مدبّرة لإعادة رمزية الحرب بين الشرقية والغربية. جل ما في الأمر أن الجسر مكان مناسب لهم وقريب من الساحتين. وعلينا أن لا ننسى أن الشبان يستمتعون فعلاً بقطع الطرق واحتلال الأماكن العامة لاستعادة الثقة بأنفسهم كفاعلين في الحياة العامة. وتحدثت سمراني في هذا السياق عن الشتائم التي كيلت للسياسيين. فمن سكت ثلاثين سنة بادر إلى شتم الجميع. لكن السلطة هذبت الشارع للأسف. والشبان تلافوا الاصطدام واقلعوا عن الشتائم.
فلسفة قطع الطرق
ترفض سمراني الإقلاع عن قطع الطرق، خصوصاً أن السلطة أرادت فتح البلد وعودة الحياة الطبيعية، كأن شيئا لم يكن. وفلسفة قطع الطرق باعتبارها تقطع أرزاق الناس هي مخطط السلطة لإعادة فتحها. لكن قطعها يجب أن يكون ضمن استراتيجية لتنفيذ ضربات معينة وبأهداف واضحة. أي تسكير البلد وشل الحركة مقابل مشروع سياسي تغييري يبدأ باعلان اضراب عام تصعيدي وصولاً إلى العصيان المدني وعدم دفع الضرائب. لكن ليس قطع الطرق لفتح المجال لأطراف السلطة التي تريد إما افتعال مشاكل مع المتظاهرين مثلما فعل حزب الله وحركة أمل، أو استغلال الشارع من البعض لتحدي الخصوم في التفاوض وشد الحبال، كما فعل تيار المستقبل أو الحزب التقدمي الاشتراكي أو القوات اللبنانية.
عودة إلى القاعدة العمالية
وفي ظل الحديث عن الصرف الجماعي للعمال والموظفين وإقفال المؤسسات. كيف يواجه حزب العمال والفلاحين والفئات المتضررة هذا الأمر؟
تقول سمراني: "للأسف لقد خرج الحزب من النقابات العمالية بسبب الظروف الصعبة بعد سيطرة أحزاب السلطة عليها وتحويلها منصات حزبية. كان الحزب أمام خيار صعب، إما التحالف مع أحزاب السلطة التي سيطرت على النقابات، أو البقاء كطرف مستقل بشروط ضعيفة. إذ تبين أن المستقلين لا يمثلون أكثر من 40 في المئة. فخرجنا لتشكيل تيارات نقابية مستقلة مثلما حصل في قطاع الأساتذة. كما أن الحزب ابتعد لفترة طويلة عن العمال، وكان يهتم أكثر بقطاع الأساتذة في المدارس وفي الجامعات والمهندسين والأطباء. وللأسف لم يعرف كيف يتعاطى مع العمال الأجانب الذين يشكلون الغالبية العظمى من اليد العاملة. لكن نحن أمام فرصة كبيرة لاستعادة دورنا. وبدأنا بإعادة تشكيل قطاع العمال في الحزب والعمل على قضايا الصرف الجماعي لتأسيس نقابات حقيقية تمثلهم عبر الذهاب إلى المصانع والمؤسسات، خصوصاً أن الانهيار الاقتصادي سيكون كارثياً".
من الانتفاضة إلى الثورة
وعن طبيعة المواجهة الحالية وكيفية توجيه الصراع في الشارع تعتقد سمراني أن الحزب والمجموعات الناشطة أمام تحدي حقيقي في كيفة الانتقال من الانتفاضة الحالية إلى ثورة حقيقية. فهذه المهمة تحتاج إلى مشروع واضح يطالب بحكومة انتقالية بصلاحيات استثنائية وبرنامج محدد لحماية المواطن من الانهيار الاقتصادي، يليه انتخاب مجلس نيابي جديد بعد سقوط شرعية المجلس الحالي. ما يعني إعادة تشكيل السلطة من جديد.
لقد أوصلت السلطة الناس إلى القبول بأي حل سياسي لوقف الانهيار الاقتصادي، ولتحميل الانتفاضة المسؤولية عن الوضع الحالي. لكن رغم ذلك يستمر الشيوعي في المطالبة، ليس بحكومة انتقالية، بل بإعادة تشكيل السلطة من جديد. ويعمل لتحقيق الهدف بالطرق السلمية. فالحزب ليس بوارد تغيير النظام إلى اشتراكي في الوقت الحالي. لكن في الوقت نفسه يسعى لتغيير في النظام السياسي والتحول إلى دولة مدنية وعلمانية وفصل الطائفية عن السياسة.
تعتقد سمراني أن مطالبة جميع أحزاب السلطة بالدولة المدنية لا تعدو كونها مزايدة على الناس المنتفضين، لأنها رأت أن صوت الشارع ارتفع ضد الدولة الطائفية وضد النظام الطائفي. لقد باتت الطائفية غير مقبولة لدى شريحة كبيرة من الناس وتريد التغيير، ولم يعد لديها ثقة بهذه الأحزاب. والناس ملّوا من خطاب القوى السياسية التي تستعين بالدولة المدنية وتنشد التغيير.
حزب الله يدعم السلطة
يؤخذ على الحزب الشيوعي أنه يستمر في العزف على خطاب "المقاومة" رغم أن حزب الله يستخدم هذا الخطاب كشماعة، وظهر أكثر وأشد المدافعين عن السلطة وضد تغيير النظام. ما هو موقفكم من حزب الله وخطاب المقاومة؟
تجيب سمراني: "نحن حزب مقاومة ولم نخجل من دفاعنا عن حزب الله كحزب لمقاومة الكيان الصهيوني. لكننا نأسف لأن حزب الله كان أمامه الخيار للوقوف في الشارع مع الناس ومع محاربة الفساد كما يعلن. لقد فوّت حزب الله هذه الفرصة وأخذ دور المدافع وحامي السلطة الفاسدة. في ما يعنينا، أن موقفنا واضح في هذه الانتفاضة، نحن ضد السلطة الفاسدة بجميع أحزابها ومكوناتها. حزب الله لم يجد إلا المقاومة لإقناع شارعه كونه لم يعد يمتلك أي ورقة في مواجهة قواعده في معرض دفاعه عن السلطة الفاسدة. لم يكن يستطيع الدفاع عن السلطة بالقول لجمهوره إنها غير فاسدة ولم تسرق البلد. وبالتالي اختار ورقة المقاومة لشد العصب بذريعة أنه في خطر ومستهدف".
وتابعت: "نحن حزب مقاومة وتاريخه معروف فيها وليس بحاجة في كل لحظة لتبرير موقفه والخضوع لفحص في الوطنية. نحن نستطيع القول إن الصراع الحالي هو طبقي وهو جزء أساسي من صراع التحرر الوطني في الداخل وليس فقط مع الخارج، أي ضد الكيان الصهيوني وغيره. نرى أن حركة التحرر الوطني لا تتجزأ ولا يمكن حصرها مع إسرائيل كما يفعلون. هم يتعاونون مع جميع القوى السياسية التي تقف ضد مصلحة الشعب ويبصمون لجميع سياسات البنك الدولي ومؤتمرات باريس التي تفقر الشعب اللبناني، لكنهم يمتلكون الجرأة لاتهامنا بالخيانة لأننا نتحالف مع قوى سياسية ومجموعات سياسية ومدنية في الصراع الحالي مع السلطة. هذا فصل وتناقض فظيع. يريدون حصر الصراع مع العدو الإسرائيلي ويتناسون الداخل والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، كما لو أن مقاومة الداخل غير موجودة. هذه مقاومة جدية وحقيقية خصوصاً أن السلطة الحالية هي بمثابة احتلال للداخل. هي احتلال خارجي لأنها بتبعية أميركية وفرنسية وإيرانية وسعودية، في السياسة وفي الاقتصاد، وتحمي السرقة والنهب في البلد. يريدون لنا أن نقبل بهذا الاحتلال بتبعيته للخارج لسبب وجود معادلة توافقية لحكم البلد".
(الفيديو: علي علّوش)
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها