الخميس 2019/11/28

آخر تحديث: 00:27 (بيروت)

مسيرة الأمهات بين عين الرمانة والشياح لمحو عنف الحروب

الخميس 2019/11/28
increase حجم الخط decrease

رفضاً لما حصل ليلة الثلاثاء 27 تشرين الجاري - إغارة فتيان دراجات "حركة أمل" و"حزب الله" النارية على عين الرمانة، فروّعوا أهلها واستعادوا أجواء الحرب الأهلية الملبننة بينها وبين الشياح، مهد الحرب تلك (1975- 1990) وجولاتها الأولى - نفّذت مجموعات من "الأمهات والسيدات" في انتفاضة 17 تشرين الأول المستمرة طوال 42 يوماً، اعتصاماً أمام محمصة صنين في عين الرمانة. وذلك في الرابعة من بعد ظهر الأربعاء 27 من الشهر نفسه.

سار المعتصمون والمعتصمات الذين تجاوز عددهم الخمسئة شخص في تظاهرة اجتازت طريق صيدا القديمة إلى شارع أسعد الأسعد في الشياح.

مصالحات قديمة
لشخص مثلي - أمضى نحو 15 سنة من طفولته وشبابه الأول (1963 - 1977) بين الشياح وعين الرمانة، وعايش من الشياح حرب السنتين (1975 - 1976)، وشهد بعضاً من "المصالحات" الكثيرة التي أزيلت فيها المتاريس الحربية بين المنطقتين، بعد جولات من سنتي الحرب الأوليين - كان الوقوف مع المعتصمين، والسير في التظاهرة من عين الرمانة إلى شارع أسعد الأسعد في الشياح، محفوفين بمشاعر وانفعالات وأحاسيس وذكريات وأفكار متدافعة، كثيفة وثقيلة، غامضة ومرتجة. كأنما مياه بئر عميقة عكرة وبلا قرار تضطرب مرتجة في داخلي، في مسافة عشرات الأمتار التي مشيناها من أمام محمصة صنين في عين الرمانة، إلى ما كان يسمى في جولات الحرب الأولى "محور مطعم الفوريو" في شارع أسعد الأسعد في الشياح.

أذكر من "مصالحات" حرب السنتين اثنتين: الأولى كان رائدها من الشياح مسؤول جهاز الأمن في منظمة "فتح" الفلسطينية المسلحة، أبو حسن سلامة، بإطلالته الفارعة وبذلته الأنيقة، حاملاً تلك العصا الصقيلة التي تشير إلى رفعة مكانته الأمنية، بين جمع من مرافقيه، وملوحاً بها لإزالة المتاريس الرملية من طرف شارع الأسعد. رغبةً وإرادة منه لتنفيذ هدنة حربية كان يرفضها مقاتلو الشياح المنتمين إلى منظمات حربية يصعب إحصاؤها، والمرتبطة بأجهزة تفوق الحصر.

مشهد "المصالحة" الثانية تصدّره الإمام موسى الصدر الوسيم، إمام "حركة المحرومين" ومنظمة "أمل" التي تأخّرت مشاركتها في حرب السنتين. وصل الإمام إلى شارع أسعد الأسعد محاطاً بأنصاره، فأمرهم بإزالة المتاريس في مشهد احتفالي: سار في مقدمهم مجتازاً طريق صيدا القديمة إلى عين الرمانة، التي تدافع بعض من أهلها ومقاتليها من "الكتائب اللبنانية". ثم اندفع الطرفان إلى عناق وتصفيق دمعت في أثنائهما عيون كثيرة.

واستمرت الحرب وجولاتها، بعد هذين المشهدين، وسواهما من المشاهد المماثلة الكثيرة التي كانت تمهد لهدنات تُستأنف بعدها الحرب أقوى وأعنف من ذي قبل.

السنوات الملتهبة
المعتصمون والمعتصمات بعد ظهر الاربعاء (27 تشرين الثاني 2019)، كانوا من أجيال كثيرة: قلة منهم ومنهن من أمثالي، وعصفت بهم الذكريات والمشاعر الثقيلة. ومنهم من أجيال جديدة ورثت ذاكرتهم عن أهلهم صوراً عن الحرب. ومنهم ومنهن من ليس في وعيهم وذاكرتهم سوى حوادث تقود إلى ما بين سنوات 2005 -2009، الملتهبة بالانقسام العامودي ما بين قوى 14 و8 آذار.

في تلك السنوات كثُرت صولات وجولات مناصري "حركة أمل" و"حزب الله" في غاراتهم على عين الرمانة التي قتل شاب من أبنائها قرب محمصة صنين إياها، في واحدة من تلك الغارات العنيفة.

ومن حوادث تلك السنوات وبعدها، أن فتيةً من الشياح وشبانها، كانوا يتوافدون إلى عين الرمانة لتناول زجاجات من البيرة أمام متاجرها ومقاهيها التي تبيع الكحول وتقدمه لزبائنها، فيتحرشون بفتيات أو شبان على أرصفتها، مستقويين بالمنظمتين الشيعيتين اللتين تحرمان تناول الخمور في معاقلهما الأهلية.

والحق أن شريط البنايات خلف طريق صيدا القديمة لجهة عين الرمانة، شهد منذ تسعينات القرن العشرين - كما في منطقة مستشفى الحياة وغاليري سمعان وصفير، وامتداداً إلى الحدث - سكناً مختلطاً طائفياً بين مسيحيين وشيعة وسنة. ونجم عن ذلك الاختلاط تذمر بلدي مسيحي، باعثه "الإحباط" بعدما آلت إليه الحرب من نتائج، والخوف من التناقص أو الضمور الديموغرافي، بسبب هجرة الشبان المسيحيين من تلك المناطق التي بقي فيها أهلهم المسنون.

أُنس وطمأنينة
قد يقول قائل اليوم وفي هذه المناسبة: ما لنا وتلك الوقائع والذكريات التي تحاول انتفاضة 17 تشرين الأول المستمرة، نسخها وتجاوزها إلى لبنان الخروج من هذه الشرانق القديمة؟!

جاء معتصمو/معتصمات ساحة صنين من ساحات الاعتصام والتظاهرات إلى عين الرمانة، التي بدت قليلة السكان في محيط ساحة الاعتصام. وقد يكون مجيء المعتصمين إلى الساحة بعث شيئاً من الطمـأنينة والأنس الآنيين في السكان القليلين. أما أنا فحاولت النظر في الوجوه بحثاً عن وجه قديم يعود صاحبه إلى نهاية الستينات ومطلع السبعينات، أيام كنت أجتاز طريق صيدا القديمة من جهة الشياح، متجهاً إلى مدرستي المتوسطة في عين الرمانة، والتي كان تلامذتها من سكانها المسيحيين في معظمهم.

كان ضباب السنين الكثيف يكتنف ذاكرتي في وقفتي بين المعتصمين. وعندما ساروا في اتجاه الشياح، وسرت في وسطهم، كنت كمن يمشي في دوامة أو متاهة. وعندما وصلتْ التظاهرة إلى طريق صيدا القديمة، كان في انتظارها حشدٌ من الشبان يقفون مصفقين في مدخل شارع أسعد الأسعد في الشياح. وفي مسافة الأمتار القليلة وصولاً الى أمام "محور الفوريو" الحربي القديم في الشياح، كانت شرفات البنايات تغصّ بالنساء والرجال والشبان والفتيات والأولاد. منهم من حمل جهاز هاتفه وراح يصور المتظاهرين المصفقين. ومنهم من راح يرمي الأرزّ على الحشد في الشارع. ولعل هذا لمحو ما حدث ليلة أمس الثلاثاء، حينما أغار دراجو الثنائي الشيعي على عين الرمانة وروّعوا أهلها.

فجوات وثقوب
الكثافة السكانية في شارع أسعد الأسعد، تنبعث منها حيوية فائضة على شرفات البنايات وفي الشارع وعلى أرصفته، على خلاف حال الشارع المقابل في عين الرمانة. واختلط المتظاهرون بالأهالي في شارع أسعد الأسعد. وبدا أن التظاهرة فقدت حدودها في هذا الشارع الذي تكثر فيه المتاجر والمطاعم والمقاهي وزبائنها الذين زاد من كثافتهم وصول المتظاهرين واختلاطهم بهم، قبل أن يعودوا أدراجهم نحو طريق صيدا القديمة.

الاعتصام والتظاهرة بين عين الرمانة والشياح، واحدة من نشاطات الانتفاضة التي تحاول ردم الفجوات والثقوب الكثيرة في تاريخ المجتمع اللبناني المنهك، والذي تدب في نسيجه وأوصاله حيوية جديدة في هذه الأيام.

أيام كثيفة يحتاج ما يحدث في كل منها شهوراً، بل سنة من الزمن العادي الذي كان مستنقعاً قبل هذه الانتفاضة.
(الفيديو المرفق لعلي غربية)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها