الأحد 2019/11/24

آخر تحديث: 01:03 (بيروت)

كرنفال ساحة الشهداء.. للاستقلال عن المافيا السياسية

الأحد 2019/11/24
كرنفال ساحة الشهداء.. للاستقلال عن المافيا السياسية
كشفتهم الانتفاضة وكشفهم الكرنفال في مشهدهم الأخير الكئيب والكالح في وزارة الدفاع (ريشار سمور)
increase حجم الخط decrease
كرنفال "العرض المدني" الذي دعا إليه ناشطو/ناشطات انتفاضة 17 تشرين الأول، ونظموه في ساحة الشهداء بديلاً عن العرض العسكري الرسمي، الحكومي التقليدي، المكرس احتفالاً بذكرى استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي في 22 تشرين الثاني 1943، طوى ذلك الشكل العسكري والحكومي للاحتفال، ومنح ذكرى الاستقلال القديمة من سلطان أجنبي خارجي معنىً ومضموناً جديدين مختلفين: إرادة لبنانيي ولبنانيات الانتفاضة ورغبتهم في الخروج على سلطان داخلي ومحلي لزعمائهم السياسيين، الذين يديرون شؤون دولتهم، أقله منذ نحو ثلاثين سنة، والاستقلال عنهم، ولفظهم خارج الحكم، والتحرر منهم ومن سلطانهم المقيت.

مقيت لأنه نزع عنهم صفة المواطنة وجرّدهم من الحرية السياسية والمساواة والعدالة، وحوّلهم رعايا مستتبعين ومتشرنقين في انقسامات وولاءات ما دون وطنية تتحكم بمصيرهم وحياتهم، وكانت السبب في مهانتهم وإفقارهم وهجرة أبنائهم، بحثاً عن عيش كريم في البلدان الأجنبية إياها، التي لا يمر يوم عليهم في بلدهم المأزوم والمتصدع، من دون أن يتلو عليهم أمير الحرب التلفزيوني الحاكم بأمر اﷲ، آيات بيناتٍ عن سفالاتها ومؤامراتها وطغيانها، فيما هو يرغي ويزبد.

الرعايا والمواطنون
وكرنفال لبنانيي/ لبنانيات الانتفاضة المفتوحة، الشعبي والحر والتلقائي، الزاهي والفرح، بل الساحر في حركته وألوانه، جاء في تعبيره المشهدي، الفني والجمالي المبهر والأخاذ في خفته اللاهية، متقدماً وأقوى بأشواط على قولهم السياسي، وإرادتهم السياسية. وقد تكون أشكال تعبيرهم المشهدية، المتنوعة والمتباينة والغزيرة في تدفقها الكرنفالي، هي قولهم وإرادتهم السياسيين.

ولعل مشهدية "العرض المدني" الكرنفالية هذه، الجديدة والمفاجئة وغير المسبوقة في تاريخ لبنان، تؤكد أن اللبنانيين/اللبنانيات، بفئاتهم الاجتماعية والعمرية كافة، أشد حرية ومعاصرة وتفتحاً في حياتهم الاجتماعية وأنماط عيشهم وأشكال تعبيرهم، مما في إرادتهم وقولهم وممارساتهم السياسية المتشرنقة والمأزومة مديداً، والتي يحاولون تهجئتها في انتفاضتهم الراهنة للخروج من الشرانق في كرنفالهم الشعبي اللاهي. ولربما صار عليهم، بعد مضي أكثر من شهر على انتفاضتهم المفتوحة، أن يبدأوا في مساءلة أنفسهم عن مسؤولياتهم الفردية والجماعية عن استكانتهم المديدة لعملية تحويلهم رعايا سلطنات سياسية يديرها زعماؤهم الذين جعلوهم أتباعاً وموالي لسلطانهم الذي يتبرؤون منه ويلفظونه في انتفاضتهم، ويريدون محاسبتهم على ما اقترفوه.

وقد يقول كرنفالهم الشعبي في ساحة الشهداء أنهم كائنات اجتماعية تُقبلُ بقوة وسهولة على المثاقفة والاقتباس والابتكار والتركيب في التعبير المشهدي، الفني والجمالي، الحي والمباشر. لكن قوتهم التعبيرية السيّالة والمتدفقة على هذا النحو الحيوي في الفضاء الاجتماعي والثقافي المعيش، تعيا وتنكمش وتضمر في القول والممارسة السياسيين. كأنما هنالك فجوة فارغة تفصل تعبيرهم الاجتماعي - الثقافي عن السياسة.

وقد يكون هذا الانفصال أو الفصام، وليد تاريخ لبنان واللبنانيين السياسي، ويقول إن لبنان متقدم، قوي ومتميز وناجح كمختبر وتجربة اجتماعية - ثقافية، لكنه منقوص أو موقوف سياسياً، ما دون الوطنية السياسية والشعب السياسي المركب والمتماسك.

وربما ما تحاول الانتفاضة الراهنة قوله على نحو قلقٍ ومتعثر، هو إرادة الخروج من ذلك النقصان أو التوقيف السياسي المديد، الذي أدى إلى حروب أهلية - إقليمية ملبننة مديدة، خَلَفَتها وصاية/احتلال سوري أسدي، أنهته انتفاضة 14 آذار 2005 نهاية منقوصة ومتعثرة. وهكذا أرادها أمير الحرب ووريثها وزبونه الجديد الذي ارتدى أقنعة "المخلص الوطني" وأوهم بطانته وحاشيته وشيعته الاجتماعية - السياسية بأن خلاصهم من إحباطهم وعزلتهم وتهميشهم السياسي، لا يتحصل إلا من طريق الولاء لأمير الحرب ووريثها، كي يمكّنهم من تسلق مناصب الحكم والإدارة وتوزيع مغانم الدولة.

عزلة المافيا
هذا دليل آخر على أن السياسة وممارستها في لبنان حرفة ضحلة، عبثية ومارقة، غايتها السلطان والمناصب والتصدّر والريوع المالية والمادية. ويمتهنها ويحترفها رجال مارقون تافهون يرثونها مغلقةً ومتشرنقة ومنفصلة عن الاجتماع والمجتمع، ويحولونها عالماً رمادياً أقرب إلى المافيا في أعمالها وممارساتها.

وإلا لماذا انسحب السياسيون المافيويون اللبنانيون من المشهد العام اللبناني، وانكفأوا وتشرنقوا في عزلة قصرية مريبة، كأنما على رؤوسهم الطير، منذ 17 تشرين الأول الماضي؟!

بلى، لقد خرجوا مرات، وواحداً تلو آخر، من عزلاتهم. لكنه خروج البوم أو الضفادع، تارة متوسلين، وطوراً مهدّدين متوعدين. وفي الحالات كلها حائرين ماذا يقولون ويفعلون.

لقد كشفتهم الانتفاضة وكشفهم الكرنفال في مشهدهم الأخير الكئيب والكالح، في وزارة الدفاع في اليرزة، حيث بدا جنرالهم الرئيس المخلص المزعوم، واقفاً في الرانج الروفر العسكري السائر به بطيئاً بطيئاً على مثال سلطاني كرتوني أجوف، ليُشفى غليله المتعطش إلى منصب لم يصل إليه إلا عنوة وتجبراً على أقرانه الألداء، ومن طريق ولائه المستميت لأمير الحرب، ليقف تلك الوقفة المتصابية على رانج روفر عسكري تتصدق به على الجيش اللبناني الدولة العدوة لأمير الحرب إياه. وهي وقفة بليدة مثل إطلالاته الموميائية المتلفزة من القصر الجمهوري، حلمه الأول والأخير.

وصل الاجتماع بالسياسة
وتوسل "العرض المدني" في ساحة الشهداء التعبير الكرنفالي الشعبي قولاً سياسياً مشهدياً خلاباً، ربما لردم تلك الهوة الفارغة بين الاجتماع والسياسة في لبنان، ولتشديد العزلة الرمادية على أقطاب السلطان السياسي المافيوي الكئيب.

لاهياً وفرحاً ومسرحياً جاء الكرنفال بلا ضغينة على الذين يريد إزاحتهم عن مرابض مناصبهم التي يرابطون فيها بوقاحة لا يملكون سواها قولاً وعملاً سياسيين متخشبين. والكرنفال إياه حلقة من حلقات ووصل الاجتماع بالسياسة، ليصير لبنانيو/لبنانيات الانتفاضة شعباً سياسياً، غير منقوص ولا موقوف.

ومنذ 17 تشرين الأول الماضي تبتكر الانتفاضة لغتها وتكتشفها في كل يوم ومناسبة: غضب وحرق دواليب، إقفال شوارع واحتشاد وغناء وأناشيد في الساحات العامة. جسارة وإصرار وطيش وتظلّم وشتيمة مقذعة في لهوها وخفتها... ثم العزوف عن الشتيمة واستبدالها بكلمة "يا حلو" التي تدلّع المشتوم وتستبطن السخرية والتهكم... وأخيراً وليس آخراً: كرنفال "العرض المدني".

ولعل تاريخ لبنان واللبنانيين الاجتماعي والسياسي الحديث والمعاصر، يخلو من تراثٍ وتقاليد تحمل على إحياء كرنفالات وطنية شعبية، عامة وجامعة. فالكرنفال الوطني الشعبي يحتاج، ليتأسس وينشأ ويستمر، إلى زمن مديد وحوادث وموارد تاريخية واجتماعية أو أسطورية عميقة الغور والتأثير في تكوّن جماعة ـ أمة وطنية جامعة، راسيّة ومتماسكة، لا عهد للبنان واللبنانيين بها. فالتاريخ اللبناني سردياته متقطعة ومتناثرة ومتحاجزة ومغلقة ودائرية، بلا وجهة ولا اتجاه. وفي أحسن الأحوال تقتصر موارد ذلك التاريخ ومادته الجامعة على الفولكلور. هذا فيما لا يزال التاريخ الفعلي والحقيقي، الأليم والدامي، في الظل والخفاء والأقبية السرية للجماعات اللبنانية، فتستعيظ عنه بالفولكلور والكلمات الخاوية.

هل تفتح الانتفاضة وكرنفالاتها المشهدية تلك الأقبية السرية للتاريخ اللبناني، وتحرره من الفولكلور الأجوف؟ حيال هذا السؤال الصعب، لا تزال الانتفاضة في بدايتها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها