الخميس 2019/11/21

آخر تحديث: 21:36 (بيروت)

خطاب ذكرى الاستقلال: الرئيس يخاطب نفسه في مرآة محطمة

الخميس 2019/11/21
خطاب ذكرى الاستقلال: الرئيس يخاطب نفسه في مرآة محطمة
بعد انتهاء هذه الأزمة ستعودون إلى المنزل (دالاتي ونهرا)
increase حجم الخط decrease

بقي الرئيس عون في مكانه. وعلى الأرجح، لن يبارحه. وبعد التجارب السيئة في إطلالاته التلفزيونية (المباشرة والممنتجة)، كان من المتوقع أن تكون كلمة الرئيس التقليدية بمناسبة عيد الاستقلال "تقليدية". أي لا تقول شيئاً يستدعي سجالاً. لكنه ميشال عون، الذي لا يستطيع إلا أن يكون هكذا، عنيداً في ظنونه وأفكاره، منحازاً إلى تاريخ متخيل ولغة مخاتلة وسياسة باطنية. قال الكثير، رغم أنه كان مقتضباً، إلا أنه لم يبح بما يجب قوله.
هذا هو ميشال عون، الذي يستطيع أن يكون أضداداً تنفي بعضها، وعبارات تأكل نفسها وتطحن معانيها.

أين الحكومة؟
مساء الخميس، عشية ذكرى الاستقلال، خاطب اللبنانيين قائلاً: "أتوجه إليكم، مع علمي أنه ليس وقت الخطب والكلام والاحتفالات. إنه وقت العمل، العمل الجدي الدؤوب، لأننا في سباق مع الزمن فالتحديات كبيرة وخطيرة، وقد فاتنا الكثير من الوقت. حكومة جديدة ينتظرها لبنان وتعقد عليها الآمال، كان من المفترض أن تكون قد ولدت وباشرت عملها. إلا أن التناقضات التي تتحكم بالسياسة اللبنانية فرضت التأني لتلافي الأخطر، وأيضاً للتوصل إلى حكومة تلبي ما أمكن من طموحاتكم وتطلعاتكم، تكون على قدر كبير من الفعالية والانتاجية والانتظام، لأن التحديات التي تنتظرها ضخمة، والاستحقاقات داهمة".

وترجمة هذه الكلمات عملياً تقول أن الرئيس يتجاوز الدستور إلى حين أن يتم "اختراع" حكومة وفق ما يشتهيه هو وصهره، ووفق ما يناسب حزب الله أولاً.

قال عون: "مع كل محنة نزداد يقيناً أن المحافظة على الاستقلال أصعب من الحصول عليه؛ فالاستقلال هو القرار الوطني الحر والمستقل، غير الخاضع لأي شكل من أشكال الوصاية، صريحة كانت أو مقنعة، وهذا ما نتشبث به اليوم ودائماً، بكل ما أوتينا من عزم وقوة، ومهما كان الثمن.
إن الصفقات والتسويات التي تُعد لمنطقتنا، ومحاولات فرضها، تهدد ليس فقط استقلال الدول المعنية بل أيضا كيانها ووجودها".

أيضاً، تتحول كلمات "الوصاية" و"الصفقات" و"التسويات"، بين يدي الرئيس ضبابية وأشبه بتهاويم سياسية.

ساعدوني
وعلى المنوال نفسه، يقول عن الفساد: "لقد أضحت مكافحة الفساد شعاراً استهلاكيا يُستحضر كلما دعت الحاجة، لا سيما من قبل الغارقين به، ولكن، عند أبسط إجراءات التنفيذ، تبدأ الخطوط الحمر المذهبية والطائفية بالظهور. المعركة هنا قاسية، لا بل من أقسى المعارك، لذلك توجهت إليكم، أيها اللبنانيون، طالبا المساعدة، فلا أحد غيركم قادر على جعل كل الخطوط متاحة. ولا أحد غيركم قادر على الضغط من أجل تنفيذ القوانين الموجودة، وتشريع ما يلزم من أجل استعادة الأموال المنهوبة وملاحقة الفاسدين".

وفي محاولة منه لتقزيم وتهفيت كل ما يحدث منذ 17 تشرين، ظناً منه أنها مجرد "حراك" لمواطنين متذمرين، راح يقول: "أكرر هنا ندائي إلى المتظاهرين للاطلاع عن كثب على المطالب الفعلية لهم وسبل تنفيذها، لأن الحوار وحده هو الطريق الصحيح لحل الأزمات.
لقد كسرت التحركات الشعبية التي حصلت أخيرا بعض المحرمات السابقة وأسقطت، إلى حد ما، المحميات، ودفعت بالقضاء الى التحرك، وحفزت السلطة التشريعية على إعطاء الأولوية لعدد من اقتراحات القوانين الخاصة بمكافحة الفساد".

الشكوى من الإعلام والناس
بل أنه اشتكى من الإعلام وصرخات الناس وشكاويهم، فقال: "إن تسليط الضوء على مكامن الفساد عبر الإعلام وفي الساحات، صحي ومساعد، وكذلك تقديم المعلومات والوثائق المتوافرة إلى القضاء. ولكن، أن يتحول الإعلام والشارع والجدل السياسي الى مدع، ومدع عام، وقاض، وسجان في آن، فهذا أكثر ما يسيء إلى مسيرة مكافحة الفساد، لأن إطلاق الاتهامات العشوائية وإصدار الأحكام المبرمة، والتعميم، قد تجرم بريئاً، ولكنها بالتأكيد تجهل المرتكب الحقيقي وتسمح له بالإفلات، وأيضا بمتابعة نشاطه في الفساد. لقد أعطيتم دفعا للقضاء، فدعوه يقوم بواجبه".
وأطال بالحديث عن القضاء معولاً عليه، وشاكياً منه في آن معاً: "منذ العام 2017 أحلتُ تباعاً على القضاء ما يزيد عن 18 ملفا تتعلق بقضايا فساد ورشاوى في إدارات الدولة، وإلى اليوم لم يصدر أي حكم بأي منها. وإذا كانت العدالة المتأخرة ليست بعدالة، فإن التأخر في بت قضايا الفساد هو تشجيع غير مقصود للفساد". وكرر قوله السابق "سأكون سداً منيعاً وسقفاً فولاذياً لحماية القضاء".

في الاقتصاد، كان الخطاب بالغ العمومية وغير دقيق عملياً، وأشبه بالأماني، خصوصاً في الموضوع النفطي: "فلتكن السنة المقبلة سنة استقلال اقتصادي فعلي، من خلال تغيير النمط الاقتصادي الريعي إلى اقتصاد منتج عبر دعم الزراعة والصناعة وتبني سياسات تحفيزية ليصبح إنتاجنا تنافسيا في الأسواق الخارجية. وكذلك تخصيص كل الاهتمام بالقطاع التكنولوجي واقتصاد المعرفة الذي يمكن للبنان أن يكون منافساً جدياً فيه.
نعم فلنجعل منه عام استقلال اقتصادي فعلي، من خلال بدء حفر أول بئر للنفط في البحر، ومن خلال إقرار قانون الصندوق السيادي الذي سوف يدير عائدات البترول على أن يلتزم أعلى معايير الشفافية العالمية".

خطاب الكراهية؟!
وبعد الكلام الغنائي عن التشجير والبيئة وضمان الشيخوخة، مرر ما يريده فعلياً الآن من "أمر عسكري" بمنع المنتفضين من إقفال الطرق، هذا الموضوع الذي بات هوساً سياسياً يزعج حسن نصرالله وميشال عون على نحو بالغ الغرابة: "إن أصعب المهمات التي قد تواجه عسكرياً هي المهمات الداخلية كما هو حاصل معكم، إذ عليكم أن تحموا حرية المواطن الذي يريد التعبير عن رأيه بالتظاهر والاعتصام، وأن تحموا أيضاً حرية التنقل للمواطن الذي يريد أن يذهب إلى عمله أو إلى منزله".

ولا ندري من أوعز له أو كيف كوّن الرئيس انطباعاً عن أكثر الثورات السلمية وانفتاحاً وتعدداً ورحابة اجتماعية وسياسية، بأنها تحمل "خطاب كراهية" (ربما هو يهتم فقط بمحبة الصهر) فقال: "إن تفلت الخطاب في الشارع هو من أكبر الأخطار التي تتهدد الوطن والمجتمع، فلا تنسوا أنكم بعد انتهاء هذه الأزمة ستعودون إلى المنزل، إلى الحي، إلى المدرسة، إلى الجامعة، إلى العمل... ستعودون للعيش معا، فلا تسترسلوا في خطاب الكراهية والتحريض لأن الهدم سهل ولكن البناء شاق، ولا تهدموا أسس مجتمعنا الذي يقوم على احترام الآخر وعلى حرية المعتقد والرأي والتعبير".

قد تكون أقل خطبه "استفزازاً"، لكنها الأكثر وضوحاً: لا تغيير أبداً في سياسة العهد ولا في نظرة الرئيس إلى نفسه وإلى اللبنانيين. وهذا على كل حال، ميشال عون الذي نعرفه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها