الإثنين 2019/11/18

آخر تحديث: 00:32 (بيروت)

شهر من الثورة اللبنانية: شعب ناهض يبني حياة جديدة

الإثنين 2019/11/18
شهر من الثورة اللبنانية: شعب ناهض يبني حياة جديدة
لم تستسلم الساحات رغم كلّ محاولات ترهيبها (المدن)
increase حجم الخط decrease

منذ سنوات طويلة، لم يعشْ اللبنانيون شهرًا كحال هذا الشهر، الذي بدأ في 17 تشرين الأول 2019. إنّه يومٌ مجيد لم يُحسب له، فرض نفسه على الذاكرة والتّاريخ، وكان فاتحةً لثورةٍ قرر اللبنانيون أن لا يعودوا منها إلّا منتصرين. كانت مُكافأة ذكرى مرور الشهر لاندلاع الانتفاضة الشعبية في لبنان، صاعقةً على أهل السلطة، وجرعة أملٍ كبيرة شحنت همم الثائرين والثائرات، مع إعلان فوز المرشح المستقل ملحم خلف بمنصب نقيب للمحامين في العاصمة بيروت في 17 تشرين الثاني.

على أبواب السفارات
شهرٌ مضى، وأهل السلطة يجلسون في أبراجهم العاجية، يكبّون سمومهم عبر أحزابهم وأتباعهم، بالتخوين والتهويل وقذف سهام الفتنة والاتهامات المبطنة للثّوار بالتواطؤ والتعامل مع جهات مشبوهة وسفارات أجنبية. هذه السلطة نفسها، التي يتسابق رموزها على مرأى من أعين اللبنانيين لدقّ أبواب السفارات المرتهنين لها، حتّى يستمدون منها دعمًا وسطوةً ونفوذًا، لا تخجل من تسمية ما يشهده لبنان بـ"الحراك" بدل "الثورة". إنّها في حالة إنكارٍ دائمة، لكنّ الواقع يتفوّق على هذا الإنكار، الذي يعكس إفلاسًا تاريخيًا للسلطة، انفجر بعد تراكمات 30 عامًا من الفساد والكذب.

نعم، هي "ثورة" وليست "حراكًا"، اكتبست معناها بالاستمرارية والأحداث الاستثنائية، بعد أن قلبت الطاولة على من توعّد بقلبها في 13 تشرين الأول. عندما يُعلن الشعب اللبناني انتفاضةً على الاقطاع السياسي والطائفي والمناطقي، عندما تكسر التظاهرات الشعبية نظرية مركزيتها في بيروت فتجوب مختلف الساحات والمناطق حتّى "المُحرم" منها مثل صور والنبطية وبنت جبيل وكفرمان، عندما يشهد لبنان لأول مرّة بعد الحرب الأهلية (1975) حراكًا طلابيًا واسعًا خارج مظلة الأحزاب وتُغلق المدارس والجامعات، عندما تُرفع الأعلام اللبنانية في كلّ الساحات وتُنكّس الأعلام الحزبية على اختلافها، عندما يجتمع أعضاء النقابات ويعلنون إنضمامهم إلى الشارع، عندما تُقفل المصارف ويضطر حاكمها إلى عقد مؤتمر صحفي خجولٍ تعرّى فيه من كذبة "الليرة بخير"، عندما تتحول الآحاد إلى أيامٍ مجيدة لتجديد الوعد بالانتفاضة، عندما يبتكر  اللبنانيون أساليب جديدة للتعبير عن اتحادهم ضدّ "كلن يعني كلن" كما فعلوا في سلسلة البشرية الطويلة، عندما تمزّق طرابلس صور زعاماتها وتتحول لأيقونةٍ عالمية في انتفاضة أبنائها، وعندما يحدث كلّ هذا وأكثر، يكون لبنان، اصطلاحًا وفعلًا، دخل في مرحلة "ثورة"، بعد أن حددت المعركة أقطابها: الناس في وجه السلطة.

واتساب شقير
شهرٌ كاملٌ من الثورة، قد تدوم لأشهرٍ وربما سنوات، لأنّها تجاوزت سقف المطالب المعيشية والاقتصادية، فأعلنها اللبنانيون على النظامٍ برمّته، بعد أن توغّل لعقودٍ بالفساد والمحاصصات، حتّى فقدتْ الدولة قوامها، وتحوّلت لإقطاعٍ بين الطوائف وأسيادها والمتسلقين على أكتافها. هذا الشهر، كان حافلًا بالأحداث في السياسة والشارع. ولأول مرّة أيضًا، يتحوّل الشارع إلى خصمٍ مباشرٍ للسلطة، ويُجبرها على التعاطي معه بعلاقةٍ ندّية، فيفرض عليها شروطه وأجندته ويكون هو البوصلة للأحداث والتحركات.

اندلعت شرارة الثورة، في 17 تشرين الأول، بعد أن أعلنت الحكومة المستقيلة على لسان وزيرها للاتصالات محمد شقير، العزم لفرض ضريبة على الاتصالات المجانية التي تتم عبر تطبيقات المراسلة الإلكترونية مثل واتساب. هذا الإعلان، الذي ظنّت الحكومة أنّه سيمر بـ"سلامٍ" مع فورة استنكار بسيطة كحال جميع إعلاناتها الضرائبية، فجّر غضب اللبنانيين، وبدأ الشارع بالعشرات الذين وجهوا الدعوات للبنانيين من أجل الانضمام إليهم، قبل أن تتفاقم أعدادهم للآلاف. وعلى وقع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ظنّت السلطة أنّ "انتفاضة الواتساب" ستخمد سرعان إعلانها التراجع عن فرض هذه الضريبة، لكنّ الشارع خذلها وبدأ يتمدد في كلّ المناطق والساحات، متجاوزًا الاعتراض على ضريبة الواتساب إلى مطالب أكبر وأكثر عمقًا. في 18 تشرين الأول، استيقظ لبنان على إغلاق المدارس والجامعات والمصارف وجميع المؤسسات العامة، وخطفت مدينة صور الأضواء بالاعتداء الذي وقع في "استراحة صور السياحية"، ثم أطلقت ليلًا عناصر الجيش وقوى الأمن الداخلي الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين من أجل توقيفهم وأوقفت العشرات. في 19 تشرين الأول، بدأت رقعة التظاهرات تتّسع، فجاب عشرات الآلاف بيروت وطرابلس شمالًا وصور والنبطية جنوبًا وغيرهم من المناطق، ثمّ أعلن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع استقالة وزراء الحزب الأربعة في الحكومة.

الورقة الإصلاحية والاستقالة
يوم الأحد في 20 تشرين الأول، بلغت التظاهرات الشعبية في لبنان ذروتها، فخرج مئات الآلاف في جميع المدن والمناطق، واكتسبت من ذلك اليوم طرابلس لقب "عروس الثورة". في اليوم التالي، أيّ في 21 تشرين الأول، خرج الرئيس سعد الحريري وأعلن ورقته الإصلاحية في الحكومة، لكنّ وزير الخارجية جبران باسيل سبقه في هذا اليوم بتصريح مباشرٍ من قصر بعبدا. وليلة إعلان الورقة الإصلاحية التي رفضها المتظاهرون، شهد الشارع في بيروت محاولاتٍ قوية للقمع بالعنف الأمني، غير أنّها لم تفلح. في 23 تشرين الأول، أصيب نحو 15 متظاهرًا بجروح في مدينة النبطية، وحاول أتباع حزب الله وحركة أمل قمع المتظاهرين رافعين أعلامهم الحزبية الخضراء والصفراء. في 25 تشرين الأول، خرج أمين عام حزب الله حسن نصرالله لأول مرّة، وأطلق خطابًا استعلائيًا وتهديديًا، وقال صراحةً: "لا لإسقاط الحكومة، ولا لإسقاط العهد"، ثمّ خرج مناصروه لاحقًا وجابوا شوارع بيروت مرددين الشعارات الداعمة له، ومع ذلك لم تستسلم الساحات رغم كلّ محاولات ترهيبها!

في 26 تشرين الأول، وقعت اشتباكات عنيفة بين الجيش والمتظاهرين في منطقة البداوي في طرابلس، فكانت مؤشرًا سلبيًا كاد أن يفجّر الأوضاع أمنيًا من الشمال، لولا تداركه بوعيٍ كبيرٍ من المتظاهرين، وفي 27 تشرين الأول، شكّل عشرات آلاف اللبنانيين سلسلة بشرية على امتداد الساحل اللبناني من الشمال إلى الجنوب بطول 170 كلم.

اليوم التاريخي في شهر الثورة، كان في 29 تشرين الأول، حين خرج شبيحة حزب الله وحركة أمل بقمصانهم السود والعصي على جسر الرينغ، وتهجموا على المتظاهرين واعتدوا عليهم بالضرب وأحرقوا خيمهم، في مشهدٍ أعاد الذاكرة لـ 7 أيار 2008، وكان اعتداء هؤلاء الشبيحة، مقدمةً لإعلان سقوط ركنٍ من أركان التسوية الرئاسية، فخرج بعد ساعات الرئيس الحريري معلنًا استقالة حكومته تلبيةً لمطلب الشارع.

الرئيس والثورة الطلابية
ليل السبت، في 2 تشرين الثاني، لبّت معظم المناطق اللبنانية دعوة طرابلس لمشاركتها في تظاهرة شعبية حاشدة بلغت مئات الآلاف في وسط ساحة النور، وفي 3 تشرين الثاني، امتلأت شوارع بيروت ومدن كبرى أخرى بآلاف المتظاهرين، بعد ساعات قليلة من تجمع للتيار الوطني الحرّ أمام قصر بعبدا دعمًا لرئيس الجمهورية ميشال عون الذي ألقى كلمة بعد كلمته الأولى المسجلة، وكذلك أطلق جبران باسيل خطاب مظلوميته.

في 6 تشرين الثاني، نفذ عشرات آلاف الطلاب من المدارس والجامعات مسيرات وتظاهرات في مختلف المناطق، وفي 9 تشرين الثاني، أغلقت العديد من محطات المحروقات أبوابها أمام اللبنانيين. في 11 تشرين الثاني، كانت المرّة الأولى التي يرضخ فيها رئيس مجلس النواب نبيه بري لضغط الشارع، ويعقد مؤتمرًا صحافيًا بغية إعلان تأجيل جلسة مجلس النواب التي كانت مقررة في 12 تشرين الثاني من أجل مناقشة قانون العفو العام. وهذا اليوم الذي حقق فيه الشارع انتصارًا نسف جلسة مجلس النوب، خرج الرئيس عون في مقابلة تلفزيونية مباشرة، استفزّ فيها الشارع بخطابه الموتور وتحوّل لطرف ضدّ الشعب، مذكّرًا بـ"مشيال عون الأصلي" ما قبل 2016، وقال جملته التاريخية "إذا لم يجدوا (المتظاهرون) أي شخص صالح في هذه الدولة، فليهاجروا". وعلى الفور، وبعد أن كانت تستعد المدارس لفتح أبوابها، عادت فورة الغضب إلى الشارع، وتوجه آلاف المتظاهرين لأول مرة نحو قصر "الشعب" في بعبدا، فوجدوه مسيجًا بالعوائق الحديدية والأسلاك الشائكة في وجههم.

في 13 تشرين الثاني، كانت نكسة الثورة الكبرى بمقتل المواطن علاء أبو فخر على يد أحد العسكريين، متأثرًا بجروحه، عند مثلث خلدة، فحمل لقب "شهيد الثورة". بقي أركان السلطة يعقدون "صفقاتهم" المشبوهة بعيدًا من نبض الشارع، وخرجوا باتفاقٍ كان عرّابه جبران باسيل في 15 تشرين الثاني، متجاوزين الدستور والاستشارات النيابية الإلزامية، لتسمية الوزير السابق محمد الصفدي من أجل تكليفه تشكيل الحكومة.

لم يبقَ الصفدي يومين على حلم التكليف، حتّى سقط في الشارع، ومن قلب مدينته طرابلس، لتنفجر الخلافات يوم الأحد في 17 تشرين الثاني بين الثنائي الحريري – باسيل.

حتّى الآن، لم تخمد شرارة الثورة التي تفاقمت في "أحد الشهداء"، وربما تكون في بداياتها. الطلاب والنساء انتفضوا في الشارع رافعين سقف مطالبهم، الرئيس عون لم يدعُ بعد لاستشارات نيابية قانونية من أجل تكليف رئيس لتشكيل حكومة انتقالية، حسن نصرالله خرج في 4 خطابات خلال شهرٍ واحد وفي كلّ خطاب كان يخّفض نبرة كلامه بعد كسر لاآته في الشارع. بعض المناطق مثل الزوق وجل الديب وطرابلس وصيدا تحولت لأيقونات في الثورة، أمّا جبران باسيل، فستبقى لعنة الـ "هيلا هيلا هيلا هيلا هو" تلاحقه ما بعد ما بعد الثورة، ليبقى "لبنان ينتفض" في وجه السلطة حتى الانتصار المنتظر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها