السبت 2019/01/19

آخر تحديث: 00:06 (بيروت)

نبيه برّي: لولا الهاء في اسمه

السبت 2019/01/19
نبيه برّي: لولا الهاء في اسمه
كابد طفولة مضطربة الإقامة والغربة بين سيراليون وتبنين وبيروت (Getty)
increase حجم الخط decrease
".. يومها قمت بقيادة تظاهرات وأقفلت المدرسة. نزلت إلى الشارع، أنا والطلاب زملائي في المدرسة، فخربنا ما طالت أيدينا من حواجز وإشارات سير".

هذه هي بدايات "العمل السياسي" لنبيه برّي عام 1957، شاباً يافعاً متحمساً للثورة الجزائرية، متضامناً مع المعتقلة جميلة بوحيرد. وهي، على كل حال، ليست بداية فريدة من نوعها بين أقرانه من الشبان اللبنانيين المسلمين، الذين أقبلوا على المدارس الحديثة والجامعات، وتتلمذوا على أيدي أساتذة يغلب عليهم الهوى العروبي، الناصري والبعثي، مأخوذين بـ"حركات التحرر الوطني" في العالم الثالث.

والشاب المشاغب، الذي كابد طفولة مضطربة الإقامة والغربة بين سيراليون وتبنين وبيروت، محروماً من حضن الأمومة حتى سن العاشرة، وإن في عائلة مقتدرة مالاً وتجارة، الشغوف بعوالم القرية ورموزها على مثال دعاوى الأصالة والبراءة والماضي التليد، المصاب بالحنين إلى العرزال، واظب على حيرة السكن والإقامة والمدارس الكثيرة التي ارتادها. ومن شأن هذا الاضطراب، أن يفعل فعله في النفس، فيغمرها بمشاعر الحرمان المضنية، وباختلاجات العاطفة الجريحة، التواقة أبداً إلى الاستقرار والطمأنينة المستعصيين.

وهذا، تعويضه على الأغلب، يكون في الإقبال على الانضواء بجماعة وهوية سياسيتين، يتآلف فيها من يشترك بمشاعر اليتم واضطراب المكانة وألم تحولات العالم وضياع "البراءة". ولذا، يسع نبيه برّي نفسه أن يقول بلوعة حتى يومنا هذا: "إن خيمة التين عندي تعادل ناطحة سحاب…".

والحق يقال، أن أبناء "الأمة القلقة" (على ما يقول وضاح شرارة)، يشاركون برّي مقولة "خيمة التين" هذه، وعياً وخطابة وتربية، كما يشاركونه في الوقت نفسه اندفاعهم المحموم نحو بناء ناطحات السحاب، بما تعنيه، حداثةً وعملاً وثروة وسلطة وشقاء الغربة. وتلك هي النفس المبتورة من دون شفاء.

وقدر صاحب هكذا سيرة ووعي، أن يجد في السياسة سبيلاً لمقارعة العالم وأحواله. هو الذي اختبر باكراً كطالب بكالوريا النظام السياسي اللبناني، مراسلاً رئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون، شاكياً رسوبه في الامتحان الرسمي، فاستدعى الرئيس الماروني الطالب الشيعي إلى قصره، ليهاتف بحضوره وزارة التربية شاتماً وساخطاً لأن مدير عام الوزارة رفض الانصياع لرغبة الرئيس بإنجاح تلميذ تبنين. ما يوحي بفضائل "الديموقراطية" اللبنانية، على علّاتها.

واختباره الثاني، حدث هناك في الجنوب بأواخر الخمسينات، حين كان شاباً يقود سيارة فورد على الطرقات الضيقة للقرى، عندما وقع خلاف على أفضلية المرور بينه وبين موكب أحمد بيك الأسعد المؤلف من 16 سيارة. فرفض برّي الرضوخ لطلب مرافقي الأسعد الرجوع. ولمّا علم "الإقطاعي" الكبير أن ذاك العنيد من آل بري (بما يعنيه من حسابات انتخابية) أمر مواكبه بالتراجع: "عندما رأيتهم يتراجعون أحسست بنوع من الخجل. عندها قررت الرجوع قليلاً. وعندما مرّت سيارة أحمد بيك الأسعد بموازاة سيارتي تبادلنا النظرات بإمعان سوياً، مع هزة رأس من الطرفين. وبعدها مضينا".

ويعجب واحدنا الآن، كيف يمكن تسويغ نقمة وخصومة حيال هكذا "سلطة" و"نظام" سياسيين، بالنظر إلى مآلات الراهن (في سياسة "الواسطة" أو في أفضلية المرور). لكن، العجب يتبدد بالنظر إلى صعود طبقة شيعية شابة، متعلمة وطموحة، ترفدها "برجوازية" ناشئة من عمل التجارة والأعمال والمهن الحرة الحديثة، التي بدأت تناكف وتناقض "ارستقراطية" (إقطاعية) قائمة على الملكيات العقارية الموروثة وحسب، كما بدأت تتحسس مظلومية في مكانتها المتدنية ضمن الصيغة الطوائفية اللبنانية. وفي الحالين، كان نبيه برّي هو الشاب المتعلم والبرجوازي في آن واحد.

و"الأستاذ" (أو Maître بالفرنسية، صفة المحامي، خريج السوربون)، الذي انطلق بحياته الجامعية ناشطاً سياسياً موالياً لـ"البعث"، رئيساً لاتحاد الطلبة، سرعان ما يتحول إلى قريب لصيق من "الإمام" الشاب السيد موسى الصدر في مطالع الستينات. إذ وعن نباهة وقوة حدس (ميزتان أصليتان في "السياسي" على عكس "العقائدي")، يجد في رجل الدين هذا، الشجاع والإصلاحي المخالف سلوكاً ولغة وأفكاراً لمشايخ جبل عامل التقليديين، ضالته، التي فيها ترجمة لذاك التوق الناشب في الجماعة الشيعية الحديثة العلم والكفاية، المتشوقة لـ"الدخول" في التجربة اللبنانية بندية وجدارة مكتسبتين حديثاً.

هكذا، لا غرابة أن سيرة برّي هي ذاتها سيرة كوادر"حركة أمل" وصفوة جمهورها (أو حركة المحرومين - أفواج المقاومة اللبنانية)، وخلاصتها الصافية، والتي ستجد في الحروب اللبنانية دربها، الدموي والمكلف، إلى السلطة وغنائمها، كما إلى منازعتها الطوائف الأخرى، على تدبير معنى الكيان اللبناني وهويته.

ولا يُخفى هنا، ذاك المنعطف المصيري في أواخر الثمانينات، والصدام العنيف مع "الخمينية" وحزبها. إذ استشعرت "أمل" بفداحة ما كان يقترحه "حزب الله" آنذاك، بوصفه انقلاباً عدمياً على الصيغة اللبنانية، في اللحظة التي أوشكت فيها الطائفة على قطف ثمار نهايات الحرب، وتوطد الشيعية السياسية كفة راجحة وغالبة في قلب "الوفاق الوطني" الجديد.

وإذا كان نبيه برّي قد ارتضى أن يكون "الزعيم الرسمي" للشيعية السياسية، وحسن نصرالله "الزعيم" الكلي القدرة (فوق الدولة وخارجها)، إلا أن الدور "المدني" هذا لرئيس مجلس النواب، ظل دوماً ملتبساً عمداً بـ"السلاح زينة الرجال".

وكما في كل رواية، "عظيمة" كانت أم ركيكة، ندرك بغتة أثناء القراءة أننا في الصفحات التي أوشكنا بها على الخاتمة الدرامية.

و"الأستاذ" الشاعر، الأقل جودة من "شعراء الجنوب"، والذي يردد الكثير من محبيه عبارة "لولا الهاء" في إسمه، يتحسس اقتراب تلك الصفحات الكئيبة. فالرجل وقع بما يتجنبه أي سياسي على الإطلاق: الحصار والعزلة والشيخوخة في وقت واحد. حصار ومزاحمة متوسعة من حزب الله، وعزلة متعاظمة عن "الحليف" السوري وعن زعماء الطوائف الآخرين (لا تكفيه صداقة وليد جنبلاط).

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها