الخميس 2018/08/23

آخر تحديث: 02:01 (بيروت)

شعاريتان عربيتان: مؤامرة ومقاومة

الخميس 2018/08/23
شعاريتان عربيتان: مؤامرة ومقاومة
من قطف حصيلة المقاومة في لبنان شريك في الحكم وواقف خارجه (Getty)
increase حجم الخط decrease

تصعب استعادة كتابة تاريخ "حركة التحرير العربية" إذا لم تلحظ عين الاستعادة التلازم الذي ظلَّ قائماً بين نظرية المؤامرة واستراتيجيات المقاومة المضادة لاستهدافات المؤامرة. قراءة التلازم من وجهيه، تضع المطالِعَ أمام قنوات متصلة بين النظريتين اللتين تحكمهما المواجهة نظرياً، وتديم "ودَّهما" المساكنة عملياً.

نظرية المؤامرة لا تعني أن كل ما واجهته الأوضاع العربية كان محض خيال، وما تتعرض له دنيا العرب حالياً يؤكد أن للمؤامرة سياسات مدروسة ووقائع ملموسة، لكن المؤامرة صارت نظرية عندما احتجبت خلف الخطب الرسمية العربية إبَّان مراحل "التحرر الوطني من الاستعمار والإمبريالية"، وعندما صارت قناعاً يحجب كل سياسات الاستبداد وخلاصات الفشل والعجز والارتداد على الأصول التحريرية، من قبل الذين نادوا بها. شارك في الارتداد من جاء إلى الحكم والسلطة بانقلاب عسكري "تحرري وتقدمي"، ومن جاء إلى سدَّة المسؤولية من جبال الكفاح المسلح "الثوري التحريري".

تحفل السردية العربية السياسية، النظامية الرسمية، والكفاحية الشعبية، بوقائع عاشتها وتعيشها بلدان التجربة المشتركة الانقلابية للمستويين الآنفي الذكر، ويعرف القاصي والداني الصمود على كراسي الاستبداد والقمع المجتمعي الذي مارسته أنظمة الحقبة العربية الآفلة، كل الأنظمة، ما انهار منها بعد أول عصف شعبي، ومن بقيَ على قيد الحكم بمؤازرة من أبناء المؤامرة الخارجية المرذولة، الذين كانوا أعداء فألَّفت السياسة بين مصالحهم ومصالح من قال ذات يوم إنهم أعداء لأهدافهم الخبيثة. لقد أجّل أولئك "الوطنيون" المجتمعات، وعلقوا مطالبها إلى آجال غير محددة في الزمان، وغير معروفة في المكان، وأعطوا إجازة للشعب فلا قول ولا فعل، وأجازوا لأنفسهم ولأجهزتهم النيابة عن كل ما هو شعبي، فكانوا اللسان واليد والهراوة ورصاصة القمع وحبل الإعدام.

تمَّ كل ذلك بلا مساءلة، لأن المؤامرة التي تتربص بالوطن تنتظر شرخ تصدع ما في الجدار الوطني السميك، لتنفذ منه إلى وحدة صف المجتمع المرصوص بحكمة القائد، والمتلاحم بفضل صلابة صموده. كانت الحال، أن المؤامرة الداخلية السلطوية هي الأفتك، وأنها الممر الآمن الذي دخلت منه واحتمت بستائر دخانه التضليلية، كل رياح المؤامرات الخارجية ونيرانها.

عاشت المقاومة ضد التآمر في ذات السياق السياسي الذي سلكته الأنظمة الرسمية، وإذا كانت البدايات غير متشابهة تماماً، بين الضابط الذي جاء بواسطة البيان الأول، وبين المقاتل صاحب الطلقة الثورية الأولى، فإن النهايات كانت متطابقة إلى حدٍ ما، خصوصاً على مستوى القبض على مفاصل المجتمع، والتصرف به كأنه بعض من مفردات أصحاب "الجملة الثورية".

تقدّم التجربة الجزائرية مثالاً على الحكم الذي جاء أبناؤه من ميدان الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، وخلاصة التجربة أن من تولى مسؤولية ذلك البلد لم يصل به إلى الأهداف الثورية التي كانت تشحن نفوس أبناء المدن والريف الجزائري بأعظم الآمال. لقد دخلت الجزائر في محنة الصراع على السلطة بين قادتها وأطرافها ومكوناتها، بعيد نيل الاستقلال مباشرة، وعرفت محنة شديدة في قتالها ضد "الإرهاب الإسلاموي"، وما زالت تعاني من آثاره، وهي لمّا تنجح في تصفية ذيوله حتى تاريخه. الفكرة الأساسية التي يمكن تقديمها كخلاصة هي أن الاقصاء الداخلي قد أوصل إلى "الاقتتال الأهلي"، وأن الانصراف إلى مقاومة "المؤامرة" الآتية من الخارج، كان وجهه الآخر مقاومة تطلعات الداخل، والرضى بالمساكنة وتبادل المصالح مع فرضية الهجمة الخارجية.

تجربة الضباط الأحرار في مصر، انطفأت بعد سنوات طفولتها الأولى، ثم استعادت السلطات الحاكمة نمطاً من "ملكية" بديلة، وقد تولَّت الأحداث المتوالية حتى يومنا هذا، شرح ما معنى استبدال وجوه بوجوه، وارجاء عملية التجاوز من واقع اجتماعي إلى واقع اجتماعي آخر.

التجربة القتالية اللبنانية تختلف عن سواها في أنها ليست حكماً كاملاً، ولا سلطة ناجزة، بل إن من قطف حصيلة المقاومة في نهايتها أقام في وضعية ازدواج السلطة، فهو مقاوم وحاكم، وهو شريك في الحكم وواقف خارجه. تسمح البنية اللبنانية باتخاذ هذه الوضعية، لكن أحكام هذه البنية لا تلغي ولا تخفي حقيقة أن "المقاومة" تشاطر الطائفية اللبنانية في استبدادها وفي إلغائها الآخر وفي عرقلتها المجتمع. وهذه من السمات التي لا تحجبها الشعارية اللبنانية ولا الضجيج الذي صار مقاوماتياً بعدما صارت "بنية" المقاومة جزءاً من التشكيلة الحاكمة في لبنان كما في سواه.

هل تسلك الحياة السياسية دروبها السهلة من دون غض نظر "المؤامرة"؟ لا ينكر الأمر إلاّ مكابر أو مضلِّل. وبعد، متى تصطدم المؤامرة بالمقاومة؟ ومتى يصير المجتمع ومطالبه، والشعب وكرامته وحريته عنواناً لأهداف وبرامج وعمل كل مقاومة؟ كي نتصدى تصدياً ناجحاً لكل مؤامرة!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها