الأحد 2018/07/01

آخر تحديث: 00:20 (بيروت)

الفلسطينيون بين خبز اليوم وجنى السياسي

الأحد 2018/07/01
الفلسطينيون بين خبز اليوم وجنى السياسي
سلّطت التطورات الفلسطينية الأضواء على الداخل المحتل (Getty)
increase حجم الخط decrease

سلّطت التطورات الفلسطينية الأضواء على الداخل المحتل، وتغاضت بعض الشيء، عن الإطار السياسي الأشمل المحيط بالقضية الفلسطينية، في بعديه العربي والدولي. تقتضي النظرة الجادة إدامة الربط بين الداخل والخارج، ورؤية العلاقة المتبادلة بينهما، ومعاينة حراك كل منهما، وتقدير وزن هذا وذاك في معادلة الصراع، في كل محطة من محطات النضال الفلسطيني. عليه، لا يمكن التوقف عند معادلة أن "العامل الداخلي هو الحاسم، وأن العامل الخارجي هو المساعد"، توقفاً ايمانياً يعتقد بتحقيق الفكرة، ولو بعد زمن، مثلما أنه لا يمكن المرور بسرعة على حقيقة المصالح التي تقف خلف كل "وزن خارجي"، وعلى طبيعة القوى التي تدفع باتجاه كل خيار داخلي. هكذا، يصير جائزاً القول إن "طرفي معادلة الداخل- الخارج" يقيمان على حراك، وقد يتبادلان مواقع "الحسم" وهما معرّضان للتعديل، كل بقواهر ودوافع وقوى ومصالح "الآخر" الذي قد يقيم معه على تناقض أو على تكامل ومشاركة وانسجام.

على صعيد خارجي، ليس جديداً القول إن القضية الفلسطينية تعاني نقصاً فادحاً في الاحتضان والدعم، من قبل محيطها العربي. وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على تراجع الوضع العربي عموماً عن شعاراته التي ادعاها لنفسه، من تحرير ووحدة واستقلال، هذا يعني، بعبارة أخرى، أن "المنظومة" العربية، خصوصاً فريقها الذي اعتاش على قضية فلسطين، هي منظومة عاجزة، وأن الوهن ينخر مفاصلها على كل صعيد. في هذا المجال استمر "الثبات" في مكانين: الأول، تمثله مركزية القضية الفلسطينية في كل طرح عربي يمت بصلة إلى القضايا العربية العامة، من تقدم وتطور واستقلال وامتلاك أسباب القوة والمنعة... والثاني، يجسده العطاء الفلسطيني "الخاص" الذي يجود به الشعب الفلسطيني في كل ميدان. قد يقول قائل: ولكن الفلسطينيين "هادنوا"! ومن السهل الجواب أن الفلسطينيين انتقلوا بنضالهم من أجل استقلالهم ومن أجل تثبيت قرارهم الوطني المستقل من محطة إلى أخرى، وفق المحصلة السياسية العامة التي اتاحها لهم تفاعل الداخل– الخارج، لكنهم لم يفلتوا بوصلة التحرر، ولا أضاعوا هدف التحرير، ولا فرطوا "باستراتيجية الوحدة"... الأصح أن العرب "تعبت" من حمل أثقال الأهداف الفلسطينية، بما تنطوي عليه من مهمات عربية، ففضلوا نفض اليد من حصتهم في الصراع، وأحالوا عبء ما هم فيه إلى أكتاف الفلسطينيين لينهضوا بالعمل كله! هذا على صعيد عربي، فماذا عن الصعيد الدولي؟

الأرجح، أن الأفق الدولي ما زال مسدوداً في وجه الطموحات الفلسطينية الوطنية. ولعل إنسداده بات أوضح مع الإدارة الأميركية الحالية. فالحاصل حتى الآن، أن المحصلة الدولية منحازة إلى الرؤية الإسرائيلية في الصراع مع الفلسطينيين، بنسختها المتشددة التي تهدف، عملياً وسياسياً، إلى إلغاء الكيانية الفلسطينية، بما هي اعتراف بالأرض والشعب وبحقيقة الاغتصاب التاريخي لأرض فلسطين. إضافة إلى ذلك، فإن "الغرب"، بقيادة النظرة الأميركية، انتقل، منذ مدة طويلة، ليعرّف القضية الصراعية تعريفاً ديموقراطياً، فبات الفلسطينيون مطالبين بالانضمام إلى مسيرة "الحضارة" على الطريقة الأميركية، ومعرضين لامتحان إثبات أهليتهم في معركة... الديموقراطية! هكذا وبضربة واحدة، اسقط تعريف النضال الفلسطيني من صعيده التحرري الاستقلالي وجرى إلباسه مقولات مزورة، تسهل على "الراعي الغربي" تسويغ انحيازه، وتزين له "إراحة ضميره" من مطالب شعب لمّا يصل بعد إلى مصاف الشروط الديموقراطية المرغوبة!

وسط هذه اللوحة الخارجية، بعنصريها الدولي والعربي، يتحرك الوضع الفلسطيني، وفي مرآتها يمكن فهم كثيراً من تعقيداته، مثلما يمكن قراءة الوفير من شعاراته، بتأن ومن دون انفعال سياسي غير مرغوب. لكن ماذا على صعيد هذا الوضع؟ لا افتئات في القول إن صراعاً على السلطة يدور الآن فوق أرض السلطة الوطنية الفلسطينية. ولا اجتناب للصواب القول أيضاً إن هذا الصراع أفتتح باكراً في ظل القيادة التاريخية للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. نقول افتتح لأن تنظيمات عدة ذات "خلفية إسلامية" نبتت على أطراف التشكيلة السياسية الفلسطينية، التي حكمت حركة فتح مفاصلها الأساسية، وقادت وجهتها السياسية العامة، منذ انطلاق الرصاصة الأولى عام 1965 وعلى امتداد العمر النضالي المرير الذي خاضته، وما زالت، حركة التحرر الوطني الفلسطيني عموماً.

دلائل هذا الصراع "الإسلاموي" موجودة في أكثر من دفتر من دفاتر اليوميات الفلسطينية، وتجليات الطموح ماثلة في أكثر من نشاط نضالي، وضمن أروقة تفاوض سياسي خلفي، مباشر أو غير مباشر. يطرح هذا الذي عرض بعضاً من معاني "صعود" حماس، لكنه لا يغطي كل المعاني، إذ ستظل قوة الدفع الأساسية كامنة في أمرين: الأول انسداد أفق التسوية الفلسطينية- الإسرائيلية، كنتيجة مباشرة للتعنت الإسرائيلي وللدعم الدولي "الدائم" لهذا التعنت، والتغاضي عن مفاعيله الميدانية؛ أما الأمر الثاني، فهو "الأداء السلطوي" لفتح المشوب بكثير من مظاهر الفساد الذي يعطي نتائج سلبية مضاعفة في وضعية الاحتلال، لكأنما الفلسطينيين، باتوا موزعين بين رفض الفساد الذي تدل عليه أكثر من واقعة حياتية، وبين رفض تذكية النهج السياسي للحركات الإسلامية، الذي جلب مآسي سياسية وحياتية في الميادين التي كانت له اليد الطولى فيها.

من المستطاع القول، مثلاً إن حماس فشلت في الإمساك بالسلطة في غزة، وفقاً لمنطقها الرفضي التبسيطي. فما كان كافياً لإدارة العمليات القتالية، ثبت عجزه عن تلبية متطلبات ادارة الشؤون اليومية للفلسطينيين. بل لعله صار معوقاً له، وذلك بسبب ضيق الأطروحات "الحماسية" ذاتها، وبسبب فئوية القاعدة الاجتماعية، هذه الفئوية غير الناجعة في إدارة الشأن الفلسطيني، والتي تكاد تكون معاكسة لانفتاح القاعدة الاجتماعية التي استندت إليها الحركة النضالية الفلسطينية في مختلف مراحلها.

قد يُستخلص من المجريات الفلسطينية، التي تراكمت حتى الآن، أن "الإسلاميين" يريدون حلاً ما مع إسرائيل، وفق صيغة ما، في ظل إمساكهم هم بزمام السلطة. هذا يعني بكلام آخر، أنهم يرتضون في السر، ما ينكرونه على فتح ومنظمة التحرير في العلن. لكن نقطة ضعفهم الأساسية تظل كامنة في عدم قدرتهم على الانتقال من أحكام الفئوية الضيقة إلى رحاب "المركز" الوطني الجامع، الذي يستطيع ان يتمثَّل المحصلة الوطنية الفلسطينية العامة، ويدير الحركة السياسية وفقاً لأهدافها، وبالانسجام مع تطلعاتها البعيدة المنال والقريبة التحقق، أو الممكنة في الراهن المعاش.

لقد كان لصعود الإسلام السياسي الفلسطيني المتدرج، أما الخط البياني المعاكس لهذا الصعود، فيجب أن يتم في سياق سياسي تراكمي متدرج هو الآخر. ذلك أن الانقلاب في الساحة الفلسطينية يقرب هذه الساحة من خطر الانشقاق الأهلي وأخطاره المحتملة. على الطريق يجب أن يحدد "السياق الآخر" قضاياه، ويعلن أولوياته، ويشهر وسائله الوفاقية. هذا لا يعني أن التحديد الأولي غير معروف، فالسياسة الفلسطينية تضج كل يوم بمطالب الاستقلال وحق تقرير المصير وحق العودة للاجئين، مثلما تؤكد استقلالية القرار المستقل وإيجاد منافذ فعلية للوضع المعيشي المتدهور في الأراضي المحتلة. لكن، يبقى السؤال عن السياسات التي تصب فعلاً في خدمة تلك المطالب، وعن السياسات التي تهرق كل يوم "دماء المطالب" الفلسطينية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها