الأربعاء 2018/06/06

آخر تحديث: 05:50 (بيروت)

حراس الطائفيات السياسية

الأربعاء 2018/06/06
حراس الطائفيات السياسية
الغائب عن اللوحة "طائفة الوطنيين العابرين للطوائف" (الأرشيف)
increase حجم الخط decrease

بعد اتفاق الطائف، سرت بين اللبنانيين، عبارة: قيام الجمهورية الجديدة. أضمرت العبارة، لدى بعض الشارحين، معنى بناء نظام لبناني آخر، على أنقاض النظام القديم. وما ساهم في شيوع هذه "الشائعة" هزيمة مشروع فئوي لبناني داخلي أمام مشروع آخر كان أصحابه ممن وصلوا إلى استلام السلطة، بعدما تخلوا عن رؤيتهم لبنائها وسط ركام الحرب الأهلية وبين ممراتها الخربة. ضخّم الشائعة، وزين لها صف واسع من أبناء "اليسار والديموقراطية والوطنية" لأنهم رأوا في الخاتمة السعيدة للحرب، فرصة لقبولهم ضمن أروقة "النظام الجديد"، بعدما طال وقوفهم على ابواب سلفه! تعددت المناسبات السياسية، والمحطات الاجتماعية، التي أفتت ببطلان اعتقاد "قوى التغيير" التي ذهبت، عجولة ومتسرعة، إلى ذلك الاعتقاد.

اليوم، تضيف الصراعات على "السلطة التنفيذية"، شاهداً جديداً، ودليلاً إضافياً على تقادم النظام اللبناني وعلى ابتلاعه بعض التحسينات التي أدخلها الحراك الاجتماعي الداخلي على بنيته، وعلى نكوصه إلى ما دون الصورة الزاهية التي كانت للنظام محلياً وخارجياً. يقود ذلك، إلى الحاجة إلى معاينة حال النظام اللبناني، القديم الحالي، بهدف جلاء نقاط استمراره واستقوائه، وبهدف تجديد سبل الاعتراض عليه، وتعيين الواقعي والمأمول، من حركة المعارضة... وفقاً لحسابات موازين القوى وأثقالها، وليس بالتناسب مع "ألمعية الأفكار وإبهارها" أو مع تفاعل البرامج، التي باتت أسيرة التكرار والإفقار.

يتحرك أقطاب الطوائف، ضمن أروقة نظامهم، ويبدون منتهى الحرص عليه، لذلك ليس مناسباً، سياسياً، القول أن ثمة بين الأفرقاء الأهليين، من يسعى إلى قلب النظام، أو الانقلاب عليه، بل الأصح الاعتقاد أن السعي الطوائفي مستمر بغية تعديل حصص "المشاركة". هذه النظرة إلى قوى النظام، المختلفة- المؤتلفة، تنفي عن بعض الفئات "الصاعدة" طائفياً صفة التغيير، مثلما تنفي عنها صفة التفريط بالنظام... وإن كان ما تقدم لا يلغي سعي هذا الفريق أو ذاك إلى الفوز بامتياز الإمساك بدفة "السفينة الوطنية"، والتحكم بالشطر الأكبر من سياسة تحديد وجهتها العامة.

ينبع حرص الطوائفيين على نظامهم، من حقيقة توفيره مناسبة تسمح بتماسك بنيان خطبهم السياسية، وبالتحصن في خندق المصالح الضيقة، وبالصمود في وجه محاولات التغيير الجادة، التي قد تأتي النظام من خارج آليات اشتغاله. لقد بات في مرمى النظر والفكر، ما توفره "الطائفية" لجمهورها من تماسك متكور على الذات، بحيث صار الآخر غريباً، تتعاظم غربته، بالتناسب مع صفاء الخطاب الطائفي على نحو فاقع.

يمنع التماسك أو الالتفاف حول كل طوائفي المحاسبة، وهذا ليس غريباً عن واقع الحال اللبناني، فالمثول أمام أحكام القضاء أو الرأي العام، والخضوع لما يصدر عنهما، أمران ممتنعان، لأن في ذلك افتئاتا على حرمة هذه الطائفة أو تلك. كثيراً ما يتحدث اللبنانيون عن الفساد، ويقفون عاجزين أمام أربابه... لكن حديثهم لا يخلو من استنساب وانتقاء، فيصير الفساد طائفياً أيضاً، بحيث تعرض المثالب بصفتها من مكونات الطائفة الأخرى، أو المذهب المحدد بعينه! موقف كهذا، من قبل الجمهور الموزع طائفياً، يبيح نهب المال العام ويبرره، بل لعله يوكل إلى ممثلي كل جمهور مهمة "تنظيم تسريب العائد العام"، إلى خزائن الطائفي الخاص، ولعل النجاح في هذه المهمة، يعيد الجمهور تجديد الثقة بزعاماته.

يؤمن التماسك والالتفاف وتقاسم المال العام، سهولة الاستنفار والحشد الطوائفي، مثلما يسهل سيادة "الديماغوجيا"... فالشعارات التضليلية تصير فعل تواطئ حقيقي بين الزعيم الطائفي وجمهوره، لأن كلاً منهما يعرف ما يريده الآخر، فيخاطبه بما يلائم هواه.

واقع خاص كهذا يساهم مع المواقع الطائفية الخاصة الأخرى في تحصين بنية النظام المشترك وامتناعها على الإصلاح الممكن. هذا قبل الحديث عن مراكمة مسارات تغييرها. يدفع هذا الاستنتاج إلى التدقيق في مسألتين، مطروحتين في صيغة سؤالين: هل الليبرالية اللبنانية ممكنة؟ وهل البدائل الراديكالية متاحة؟ لا يخفى أن طيفاً واسعاً من اللبنانيين، راوح طويلاً بين السؤالين، وما زال يتعثر في دروبهما... أما النتائج المترتبة على محاولات هذا الطيف، الاصلاحية أو الراديكالية، فماثلة للعيان، على شكل ارتداد بالبنية اللبنانية على كل محاولات الحداثة التي طرق أبوابها كثيرون، وعلى شكل استبدال مفاهيم بأخرى، بحيث باتت حريات الطوائف ومنظومات قيمها، معادلة أو نافية، لكل مطلب سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي.

لقد عرفت التشكيلة الطوائفية اللبنانية، في عقودها الاخيرة، بروز ظواهر كثفت شخصياتها "المذهبية السياسية". ما أدى إلى زيادة التمركز على الذات، وصعّب مهمة الاختراق "الوطني" المتبادل. تستحق هذه الظواهر دراسة متأنية لتبيان معنى الصعود الاجتماعي والسياسي لديها، وللدلالة على معاني الارتكاس والتراجع الاندماجي فيها. في هذا المجال، لا يمكن تجنب الخوض في نقاش يلقي الضوء على "ظاهرة الحريرية" وماذا مثلت، وتمثل فعلاً، بعيداً من حدث الاغتيال الفاجع الذي طال رمزها. كذلك، لا بديل من سجال تفصيلي يتناول ظاهرة "الشيعية السياسية المسلحة" ويطل على الطائفة التي كانت مفتوحة الأبواب، فباتت أقرب إلى العسكرة في نطقها وفي التعبير عن مصالحها.

ومن باب أولى، تستحق المارونية السياسية، بظواهرها العونية وسواها، قراءة لرصد تحولاتها وأثر ذلك على الدور "المهيمن" الذي كان لها ضمن الصيغة اللبنانية... هذا للبحث في شروط الهيمنة، وامكان صناعتها على مستوى الطوائفيات الأخرى، أو استحالة هذه الصناعة. أما الجنبلاطية، فتقتضي وقفة تدقيق في معنى تواصلها، أو انقطاعها، منذ الاستقلال في العام 1943 وحتى مناكفات الانتخابات النيابية الأخيرة...

ما الغائب عن اللوحة؟ "طائفة الوطنيين العابرين للطوائف"! هذا اعتراف بالواقع، يدعو إلى العمل بمقتضاه وخلاف ذلك ضرب من الأوهام، ودوران مُضنٍ حول حصن النظام الطائفي المحروس حتى الساعة بيقظةٍ وانتباهٍ شديدين... من قبل كل الطائفيين، كلهم سواء بسواء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها