الجمعة 2018/05/25

آخر تحديث: 03:13 (بيروت)

تحرير الشيعية السياسية من نضاليتها

الجمعة 2018/05/25
تحرير الشيعية السياسية من نضاليتها
تمارس "النضالية" الشيعية ارتباطها الخارجي علناً (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease

يرتبط تعثر استواء المسيرة الكيانية اللبنانية بتعثر سير الطوائفيات، عموماً، من "نضاليتها" إلى "مدنيتها"، مثلما يرتبط بكبواتها المتعددة، وهي تحاول الخروج من خصوصية معازلها، إلى ميادين الاندماج الكياني العام... هذا قبل الحديث عن بلوغ الصيرورة اللبنانية، مرحلة التماهي، بين الكياني، الذي هو "الجغرافيا البشرية" الناشئة والطامحة، إلى نوع من التاريخ المشترك، والوطني بما هو رسوخ التعاقدات التوافقية والتسليم بآليات ادارتها المشتركة، والاحتكام إلى خلاصات سياسية، تجعل الكياني- الوطني مفتوحاً على استقرار ورسوخ متطورين... ودائمين.

لدى البحث في تكوين الطوائفيات اللبنانية، وفي رصد تبدل أحوالها، يمكن العثور على "نضالية تاريخية" لكل منها. تتخذ "النضالية" هذه، شكل الطفرة العنيفة، أو تسلك مسلك التراكم الذاتي الهادئ، لكن "النضاليات" جميعها، تشترك في تطلعها الى اثبات الذات وتأطيرها ومن ثم تحديدها في "العقل الجمعي" لجمهورها الطائفي، وحيال "الآخر" الطائفي أيضاً، المؤطر ضمن قوالب الخطاب والجغرافيا والايديولوجيا... التي لا ينجو من قيودها "جمهور أهلي" لبناني بعينه. لطالما اصطدمت هذه النضالية الأهلية "بنقيضها المدني" على كل الصعد، بحيث يمكن ملامسة جوانب من التأريخ للوضع اللبناني، انطلاقا من محطات سياسية عاصفة، مهدت لها تطورات اجتماعية صاخبة، كانت تنذر بتقدم "المدني"، بما هو الاندماج المتصاعد، المفتوح على تبدلات في المواقع الطوائفية الداخلية، على حساب "النضالي"، الذي هو العصبيات الأهلية، المستعصية على تجاوز اصول نشأتها الأولى، والأمينة لها، والمؤتمنة على اعادة انتاجها باستمرار.

لدى ارتطام قطبي، النضالي- المدني، كانت الغلبة دائماً للصخب والحراك الذي رافق النضالية، وغالباً ما تم ذلك، وهو يتم الآن، على حساب التراكم السلس الذي يفترضه المدني، ومن طريق الاطاحة بالأساسي الذي جرى تحصيله على هذا الطريق... دائما، يعود الوضع اللبناني، برمته، لينتقل إلى "الصفر الطوائفي"، وغالباً ما تكون معاودة كرّة البناء أشق من السابق، وأبلغ تعقيداً! يحيا اللبنانيون اليوم، في خضم انتعاش "نضاليات" طوائفية، ومذهبية، تتصدرها "نضالية الشيعية السياسية"، التي تبز قريناتها، وتتفوق عليها، حركية وصخبا، لاعتبارات شتى، لصيقة بالمسار اللبناني الخاص الذي شقته الشيعية السياسية لحراكها، وعلى صلة انفعال مباشر، بكل مسارات الطوائفيات اللبنانية الأخرى.

من بين الطوائفيات كلها، يمكن القول، مع الحذر اللازم، ان "الشيعية السياسية" شكلت طائفية صاعدة، منذ انشاء الكيان اللبناني وحتى تاريخه. استرجاع الزمن اللبناني "للشيعية" يقود إلى معاينة هذا الصعود، بمحطاته الهادئة، وبمنعطفاته المدوية، لكن مما لا تخطئه العين، ولا يتوه عنه الذهن، أن "موارد" الشيعية السياسية، واسهاماتها، في الحياة اللبنانية تعددت وتنوعت وتوزعت على شتى الحقول السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. لقد حمل الحراك "الشيعي السياسي" تحولات على مستوى "الاجتماع الشيعي" الداخلي، فاضت عن إنائها الأهلي الخاص، وبدأت تقرع بجدول أعمالها، على باب الاجتماع الأهلي اللبناني العام.

لقد حاولت "الشيعية" في مسارها، وعند أكثر من محطة، هندسة مدنيتها، وتدوير زوايا نضاليتها، وأعطت لذلك عنوانا هو التخلص من "مقولة الطرفية"، ومن عقدة الجمهور، المضاف رغما عن ارادته، الى جغرافيا الكيان اللبناني، الأصلية... كان من شأن ذلك ان يزيل الالتباس الداخلي المقيم لدى أطياف أهلية لبنانية أخرى، تطرح سؤال التشكيك الدائم حول عمق ولاء "الأطراف"، وحول حقيقة لبنانيتها، وحول رسوخ انتقالها إلى "اللبنانية"، ومدى استعصاء هذا الانتقال على النكوص. لقد كثّف الحراك "الشيعي السياسي"، ببعده الأهلي، فهمه للانتقال "إلى مدنيته" من خلال رفعه شعار الدخول إلى "الدولة"، بدءا من طلب المشاركة الوازنة في صناعة قراراتها، والحصول على الحصة الملائمة من خيراتها... وانتهاء بالدفاع عن "المؤسسة الرسمية"، ومناصرتها في معركتها ضد الحركة السياسية التي هددت بالتجاوز على توازناتها المرعية... كانت "الشيعية السياسية" ضد تحويل "الدولة" من خارجها، وهي لم تتجاوز في محطة سياسية معينة، مطلب اصلاح هذه الدولة... حتى ان شعار "السلاح زينة الرجال" كان مطلباً مؤقتاً، وكان تقديم أوراق اعتماد للدخول إلى "كنف الرسمي" مثلما كان طلب اضافة "سلاح أهلي آخر" إلى سائر الأسلحة المكرسة في خدمة "الدولة"، دفاعاً عنها، وصدا لأخصامها... لقد كان سعي "الشيعية السياسية" إلى مدنيتها مرادفا للانشداد نحو الداخل الأهلي، ولصيقا به، بل كان النجاح في هذا السعي مشروطا بمدى الانضمام "غير المشروط" الى الاحكام الداخلية، في وقت كانت النضاليات الحزبية، والسياسية الاخرى، طافرة، من خلال انشدادها الى الخارج، وتقديمه كأولوية عملية، على ما تفترضه البنية اللبنانية، وما تحتمله من أولويات.

ثمة متبدل الآن، لدى الشيعية السياسية، حيث عادت نضاليتها لتتقدم على مدنيتها، في مسيرة تبدو معاكسة لمنطق مسيرتها الأولى، على الأقل في البند المتعلق "بالدولة" فمن نصيرة لها، "كضابط ايقاع اجتماعي"، تبدو "الشيعية" معرقلة لانتظام شروط "الايقاع والتناغم"، على خلفية تطلب حصة اخرى اضافية في "السلطة" تظن "الشيعية" بأحقيتها فيها، أو على خلفية تعظيم الدور بالاستناد إلى "النضالية الهادرة" التي لازمت حراكها، ووسمته، خاصة منذ مطلع الثمانينيات وحتى لحظة تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي... لقد استلزمت "المشاكسة الشيعية" الجديدة سنوات من اعادة الهندسة لبنية الطائفة، مثلما تطلبت زمنا، ليس بالقصير، لإقفال "الخطاب الشيعي" بعد عقود من انفتاح جمهور هذا الخطاب، على منوعات من الخطب الوطنية واليسارية والديموقراطية. لقد فازت "الشيعية" اخيرا باسترداد "منازلها"، وأحكمت ايصادها، وزادت من سماكة الأقفال، بعد "دهر" من فلتان ديارها، بفعل الحرمان، او بتأثير الاتصال الجغرافي والسياسي بقضايا العرب القومية، أو نتيجة التفاعل بين "الاجتهاد الثقافي" الشيعي المفتوح، وبين مختلف الاجتهادات الفكرية العالمية.

لا يشكل تجنيا على الواقع، القول الآن، ان مساحة الاختلاف مع الشيعية، في ساحاتها، باتت شديدة الضيق، وإن التأثير في مجرياتها صار بالغ الهزال. لنلاحظ في هذا المجال انسحابا لصف واسع من المثقفين الشيعة، من ميدان السجال، مثلما لنلاحظ التحاق صف واسع منهم بالسائد طوائفيا، وهذا أدهى. ينسحب ذلك على بعض المثقفين من رجال الدين الشيعة، الذين حاولوا تميزا، لكنهم آثروا الانكفاء، او المواربة أحيانا، عندما تطلب الأمر تأسيسا مغايرا يحد من تعدي "نضالية الشيعية السياسية على مدنيتها".

قد يتطلب الامر افتتاحا لنقاش مجدٍ حول الظواهر الأبرز "لمضمون الشيعية النضالية" حالياً، وحول الشعارات التي تعبر عن هذا المضمون، وذلك لرؤية التداخل العميق الذي يشد مصالح "الشيعية" الداخلية الى مستنداتها الخارجية. يفترض نقاش كهذا اشارة أولية إلى أن "الشيعية" تستعيد اليوم، نضالية مارسها "الوطنيون اللبنانيون" بالأمس، وكان عنوانها وما زال: ربط المصير اللبناني بقضايا كبرى تتجاوز حدود طاقته البنيوية، وتهز أسس علاقاته وتوازناته الكيانية.

بالأمس، كانت قضية "الوطنيين" مسألة فلسطين، وما تجره من قراءات وممارسات في ميدان مقولة "الصراع العربي- الصهيوني"... كان الأمر معلنا: كل الدعم لقضية فلسطين... ولتفتح كافة الجبهات أمام العمل الفدائي... والوضع اللبناني "لا يساوي شيئا" أمام "قدسية القضايا العربية الكبرى"... كان الارتباط "بالقضية" يتيح خيارات كبرى، ويفتح على ممارستها بحرية دون استتباع... ولم تكن المسألة، مسألة هذا النظام العربي أو ذاك، على الرغم من ان تدخلات الأنظمة ومداخلاتها ألحقت "بالقضايا العربية" أفدح الخسائر، وعرضتها لمنوعات من الأخطار. الآن، تمارس "النضالية" الشيعية ارتباطها الخارجي علناً، وتعلن أنها ذات قضية مقدسة، دون تمويهٍ أو مواربة، لذلك يصير من الجائز السؤال: ما قضية "الشيعية" الكبرى اليوم، التي تفترض التجاوز على حال الكيان؟ هذا نقاش مشروع، وإذا وجد سبيله الى الوضوح يصير مفهوما، وعليه، يمكن الفرز والتفريق بين فهم ساذج يربط كل خلاف داخلي بالخارج، وبين فهم مغامر، لا يجد للداخل مكانا وهو يعيد ترتيب أولوياته السياسية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها