الجمعة 2018/02/16

آخر تحديث: 11:23 (بيروت)

التذكير برفيق الحريري في ذكراه

الجمعة 2018/02/16
التذكير برفيق الحريري في ذكراه
ترنُّح ذكرى 14 شباط، بعد ترنُّح إطارها في 14 آذار (Getty)
increase حجم الخط decrease

منذ اغتياله في 14 شباط 2005، درجت العادة السياسية على احياء ذكرى رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، الذي ذهب ضحية الصراعات الإقليمية حول لبنان، الذي ظنَّ من استهدفه بالقتل أنه يكسر بالاغتيال ميزان قوى داخلي وإقليمي، وأنه يدخل لبنان، المهيض الجناح السياسي، في حالة تسليم بواقع ووقائع الهيمنة الخارجية على قراره.

حتى تاريخه، ما زال القاتل الفاعل مجهولاً بالقرائن المادية الدامغة، ومظنوناً به بالاحتمالات السياسية شبه الكافية. أما بين ذلك التاريخ الدامي والتاريخ الحالي المدمّى سياسة واجتماعاً، فقد تدفقت تطورات كثيرة حافلة، في لبنان وفي محيطه، جعلت الذكرى تخبو عاماً بعد عام، إلى الحد الذي باتت معه المناسبة تشبه مناسبة تذكر رفيق الحريري والتذكير به، من جوانب سياسية واجتماعية عديدة.

وطنياً، أي على صعيد المجموع الوطني الداخلي اللبناني، فقدت ذكرى رفيق الحريري روافد كثيرة من مجرى نهرها، كانت القضية موضع جمع وتجميع لأطياف طائفية ومذهبية، فدفعت المتضررين إلى ابتكار إطار سياسي طمح أهله إلى أخذ مقاليد السياسة إلى حيث يريدون، وذات القضية فرضت على "المتهمين" سياسياً بالتواطؤ على القتل، أو على تسهيله، أو على الصمت عنه، فرضت على هؤلاء سكوناً آنياً. إذ لم يكن سهلاً على أي فريق من أطراف الداخل الجهر في تلك اللحظة، بما يخالف موجة الغضب العارم التي سيطرت على المناخ اللبناني العام.

لكن طموح الطامحين كان مثل صمت الصامتين، آنياً وابن اللحظة، ثم سلك الطموح والصمت مسارين متعاكسين، فاتخذ التفاؤل السيادي المفرط مساراً تراجعياً، وسلك الصامت الكامن مساراً تصاعدياً، وإذ خسر المتفائلون رهانهم بالنقاط، فقد ربح الكامنون رهانهم بالنقاط أيضاً. هذا لأن الفوز بالضربة القاضية متعذر في الترسيمة اللبنانية، أو هو ممنوع وممتنع. لذلك، يُكتفى بإبقاء الخصم في حال الترنّح، بحيث لا يسقط أرضاً، ولا يقوى على الاستمرار في المواجهة.

ترنُّح ذكرى 14 شباط، بعد ترنُّح إطارها في 14 آذار، هو واقع المحتفلين الذين احتشدوا حول "موقع الحريرية السياسية"، الذي لم يبادر أحد إلى تعريفه تعريفاً شاملاً، بما يقرِّبه من الكلام السياسي الذي ينطوي على الاجتماع والإقتصاد والصراع الطبقي والبعد الطائفي والمذهبي، أي على كل العوامل التي تجعل "الحريرية" ظاهرة سياسية لها ما لها وعليها ما عليها، وتخرجها من هالة "المقدس" التبجيلي، لتجعلها مادة تفكيك وتحليل ونقد موضوعي، يدرجها في سياق السيرة اللبنانية بكل تجلياتها.

تحديد الحريرية وتعريفها ووصفها وتأطيرها، يحيلها إلى ظاهرة سياسية، وهي كذلك، ويمنعها من التحول إلى "إيديولوجيا"، كما يسعى كثيرون من الذين يحاولون مواجهة إيديولوجيا الآخر، الغيبية، ومواجهة كاريزما الخصوم المختلفين، بكاريزما رفيق الحريري الشخصية، وتحويلها هي إلى مادة إيديولوجيا تشبه، بما يضاف إليها، إيديولوجيا وكاريزما الطائفيات المذهبية الأخرى. لقد ترنح مشروع الحريرية على يد ورثته في هذه النقطة، مثلما ترنح بعد ذلك في غيرها من النقاط، فلقد أقام الورثة عند لحظة الاغتيال وتسمَّروا في إطارها، ووقفوا عند "ضريح" الشهيد، ولم يتزحزحوا صوب أفق السياسة الذي يقع خارجه. كان الظن، وبعض الظن "خطأ"، أن اسم الغائب كافٍ لملء الحاضر، وأن صفة الشهيد، كافية لتعريف من يشهد للشهادة، لكن الوقائع كلها كانت تقول عكس ذلك. عليه، كان حصاد الأعوام الثلاثة عشر، يقترب مما يمكن وصفه بحصاد "قبض ريح". هذا إذا ما أردنا محاكمة المسيرة الفاصلة بين لحظة الاغتيال واللحظة الحالية، بمقياس شعارات السيادة والاستقلال والوطنية ورؤية الحريري الشهيد، وسوى ذلك من الإعلانات التي ما زالت حاضرة في كل ذكرى حريرية.

يجوز لنا بعد كل هذه التطورات التي شهدتها كل السنوات المنصرمة، أن نقول هل ما زالت الذكرى مناسبة للحريرية السياسية، غير المحددة وغير المؤطرة كما سلف؟ أم أن تاريخ 14 شباط تحول إلى مناسبة لتذكر رجل ذلك التاريخ والتذكير به فقط؟ بين الكلمتين يقع اختلاف المضمون، ويبرز اختلاف السياق، ولكل كلمة من الكلمتين، كلامها الخاص، والأفعال التي يحيل إليها كل كلام.

وعلى سبيل الإشارة، الذكرى تفترض دائماً تجاوز سياقها الماضي، والذهاب إلى فتح أفق سياسي جديد، يستلهم مضمونها الأصلي ويضيف إليه من جعبة الوقائع الراهنة. وفق هذا المعنى، الذكرى تبقى جديداً، وليس ماضياً أغلق دونه باب التطور والتكيف والإرتقاء.

أما التذكر فمحتواه من سياق آخر. فهو إذ يفتقر إلى كل ما يمكن أن تستحضره الذكرى وما يجب عليها أن تشد النظر إليه، وما يمكن أن تحشد القوى في سبيله، هذا التذكر إذا ما خلا من كل ذلك، يصير وقفة حزن ووجدان، ومناسبة نثر وقريض، ولا مكان في السياسة للشعر، الذي لا يؤخذ في حسابات كفتي أي ميزان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها