الجمعة 2018/12/21

آخر تحديث: 00:54 (بيروت)

عطب "القوة الناعمة" الإيرانية في لبنان!

الجمعة 2018/12/21
عطب "القوة الناعمة" الإيرانية في لبنان!
إيران مقيّدة بسياسة دخول إلى "قلوب وعقول" فئة واحدة من اللبنانيين (Getty)
increase حجم الخط decrease
هل تريد إيران أن يحبها الرأي العام اللبناني أم أن يكرهها؟ أو أنها تريد أن يحبها قسم منه فقط؟ طرح أسئلة كهذه مشروع، طالما أن كل الدول تسعى إلى بناء العلاقات والصداقات مع الشعوب الأجنبية، وتعزيز تعاطف هؤلاء معها، وجذبهم إليها، بفضل إنجازاتها وقيمها وثقافتها وسياستها الخارجية، أو تصرفاتها تجاه المسائل والمشاكل المختلفة على الساحة الدولية.

الدرس الفرنسي
الدولة الحريصة على نجاح هذه المهمات، تسهر على تذليل العقبات من أمامها. حرص إيران في هذا الشأن لا لُبْس فيه، من حيث النوايا. لكن ثمة مفارقة في الاستراتيجية التي تتبعها لتحقيق الهدف، خصوصاً في بلد مثل لبنان. فهي مقيّدة بسياسة دخول إلى "قلوب وعقول" فئة واحدة من اللبنانيين. وكأنها لم تتعظ من تجارب غيرها من الدول، التي لديها تأثير ونفوذ في لبنان، تحديداً فرنسا. علماً بأن الأخيرة استخلصت الدروس والعبر من تجربتها مع هذا البلد. أدركت فرنسا، اعتباراً من النصف الثاني من القرن العشرين، أن لا مصلحة لديها بأن تبقى صورتها في لبنان، مُشَكّلة بوصفها صديقة المسيحيين الموارنة حصرياً. هذا لا يعني أنها فرّطت بعلاقاتها بهم لاحقاً. بل على العكس، حافظت على صلاتها الوثيقة معهم، واعتبرت أن مصداقيتها على الساحة الدولية، مرهونة بعدم تخليها عن حلفائها وأصدقائها، من بينهم الموارنة كلاعبين محليين. إلا أن الدبلوماسية الفرنسية قررت بناء علاقات وصداقات شاملة مع كل الفئات اللبنانية، من دون تمييز واستثناء، مع أن شوائب عدة تعتري صورتها الدولية، بسبب تاريخها الاستعماري...

لم تدّعِ إيران يوماً، في خطابها الدبلوماسي، أنها لا تريد علاقات وصداقات مع جميع اللبنانيين. لكن الممارسة تشير إلى وجود خيار طوعي لديها بعدم السعي لجذب الجمهور اللبناني بأكمله نحوها، لكسب تعاطفه، أو نظرته الودية، وإقناعه بأفكارها ومواقفها. بمعنى آخر، يتعلق الأمر بمحدودية "القوة الناعمة" الإيرانية في لبنان. فنطاقها لا يتخطى فعلياً حدود الديموغرافيا والجغرافيا الشيعية، حيث باتت تمتلك تأثيراً يتميز بتداخل العوامل العسكرية، الدينية، السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الإعلامية، الثقافية، اللغوية والتربوية. تفسير هذه المحدودية يكمن طبعاً في الطبيعة الإيديولوجية الدينية للنظام الإيراني، صاحب القرار النهائي حول كيفية التعامل مع الجمهور اللبناني والعربي وكيفية مخاطبته. ألا يشكل هذا الواقع عائقاً أمام سياسة بناء صداقات عابرة للطوائف؟

البعد الأيديولوجي
تؤدي إيران، شأنها شأن عدة دول، دوراً في مساعدة لبنان على تحقيق مشاريع عمرانية وإعادة الإعمار. لكن ثمة صورة سائدة عن دورها في لبنان وعن علاقاتها مع اللبنانيين، تتلخص بما قاله رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي"، وليد جنبلاط، في معرض حديثه خلال مقابلة على قناة "أم تي في"، في 13 كانون الأول/ديسمبر 2018، ومفاده أن "(...) ثمة شريحة من اللبنانيين تتلقى مساعدات اجتماعية ومالية من طهران (...)". كلام مماثل قاله الفنان، زياد الرحباني، في مقابلة على قناة "الميادين" في 24 آب/أغسطس 2018، حين أتى على ذكر مسألة المساعدات الإيرانية لحزب الله ولبيئته الشعبية (...). مشكلة هذا الشكل من المساعدات أنه يساهم في بناء تعاطف مشروط وهش، لأنه مبني على أرضية مادية. كما أنه ينتج تعاطفاً محدوداً، لأنه محصور بفئة من الجمهور اللبناني.

طبعاً، لتأثير إيران في لبنان أبعاداً دينية وثقافية، ترتبط بما أنتجه وصدّره نظام ولاية الفقيه في هذا الصدد، وبالإرث الحضاري للإيرانيين، ذوي تاريخ عريق في الثقافة والأدب والموسيقى والفن والسينما... لكن هناك نظرة سلبية لدى بعض اللبنانيين وغيرهم من الشعوب تجاه إيران، بسبب وضع مثقفيها وكتابها وسينمائييها الذين يضطرون إما لإخضاع أعمالهم للرقابة أو للهجرة والعمل في المنفى.

بموازاة ذلك، لا يمكن تجاهل الأبعاد الإيديولوجية لتأثيرها في لبنان وفي العالم العربي والإسلامي أيضاً. فمشاكستها وشيطنتها للولايات المتحدة الأميركية، أنتجت لها سمعة محببة لدى أوساط سياسية ودينية مختلفة ومتنوعة، مع أن أوساط أخرى تضع ذلك في خانة الغوغائية والديماغوجية. كما أن لصورتها بعداً لا يمكن إنكاره، يتعلق بدعمها لحركة المقاومة المسلحة (الإسلامية) ضد الاحتلال الإسرائيلي للبنان، منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي وحتى عام 2000. لكن، في المقابل، لا يمكن إنكار أن جزءاً من هذه الصورة تحطّم بعد انسحاب قوات الاحتلال من الجنوب والبقاع، وبعد الأزمة السياسية ـ الأمنية التي تعرض لها لبنان عام 2005، والتي لا يزال يعاني من تداعياتها. حرب "تموز 2006" تضاف إلى رصيدها في مواجهة دولة الاحتلال، لكنها لم تساهم في ترميم ما تهدّم من الصورة. الأجواء ليست مؤاتية إذاً لكسب ودّ فئات لبنانية واسعة لا تصادق على بقاء السلاح في حوزة حزب الله بعد الانسحاب الإسرائيلي، وتريد تسليمه للدولة، بينما تتمسك إيران به وتعمل على تعميم التجربة إقليمياً، مما يظهرها مصمّمة على التدخل في شؤون بعض الدول العربية وعلى فرض نفوذها كأمر واقع هنا وهناك، بواسطة ميليشيات طائفية. تصرفات كهذه لا يستسيغها قسم واسع من الجمهور.

الرأي العام دوماً
كذلك، تآكل جزء آخر من صورة إيران في نظر جزء كبير من الرأي العام اللبناني (والعربي)، مع بدء الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد. أسباب عدة تقف وراء ذلك: دورها المدافع عنه والمساند له على حساب غالبية الشعب السوري، الطامح للحرية والعيش بكرامة؛ تغطيتها لجرائمه؛ مشاركتها، انطلاقاً من خلفية طائفية، في الحرب الأهلية السورية...

لا يمكن لأحد من الخارج أن يملي على الإيرانيين ما يتوجب فعله لتحسين "القوة الناعمة" لبلدهم. لكن لا يمكن للإيرانيين أن يتجاهلوا ما أثبته التاريخ، وهو أن مصير الإمبراطوريات، من أثينا إلى روما، وصولاً إلى موسكو الشيوعية...، يتوقف أيضاً على ما يشعر ويفكر به الرأي العام في مناطق نفوذ هذه الإمبراطوريات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها