لبنان الفينيقي اليوم، ما زال يقيم على سريانية ونبطية وآرامية، وما زال على عتبة العروبة نصّاً، لكنه لم يتجاوز "الوجه العربي" الذي أراده له سياسيو الاستقلال، نصاً وروحاً وفي قلب الواقع العملي.
لبنان ذو الوجه العربي، تنازعت سحنته أجيال الاضطراب الداخلي وتصارعت على لون بشرته أجيال العروبة الأخوية، من مصر البعيدة، إلى سوريا القريبة، إلى الفلسطينية التي أقامت في دياره، إلى مختلف "الأشقاء" الذين دخلوا إلى الفضاء اللبناني المكفهر، بأموالهم ومخابراتهم ومنظوماتهم الإيديولوجية الخائبة. كان هذا أمر لبنان الاستقلال مع لون عروبته، ومع أشقائه من سائر الألوان، وكانت الإدارات اللبنانية المتعاقبة قادرة على التعايش الهادئ مع "قوس قزح" العروبة أحياناً، وكان التعايش ملتهباً مع أطياف من هذه العروبة أحياناً أخرى.
الوليّ الوصي
تعاقب المحطات العربية على لبنان، لم يضع مصيره الكياني موضع التساؤل بشكل جدي، أي أن العروبات التي تبادلت النفوذ في لبنان وضعت في حسبانها إلحاق الوضع اللبناني بها، لكنها لم تضع على جدول أعمالها الإطاحة به إطاحة كلية. وضع اليد الخارجية على لبنان كانت له أشكاله الثقيلة، خاصة مع الوصاية السورية، لأسباب الجوار ولأسباب "العقيدة البعثية"، وكانت له ممراته الداخلية اللبنانية من خلال استثارة العصب الطائفي، والتحصن بالفرز المذهبي، والتأسيس لعداء فئوي، بحيث يصير الحذر علاقة يومية بين اللبنانيين، وبحيث يصير الوليّ الوصي مصدر حماية من انفلات مصالح طائفية سياسية على مصالح طائفية أخرى، ويصير الوصيّ ذاته مرجع توزيع الحصص، بحيث تكون الحصص الوازنة من نصيب أصحاب نسخ الالتحاق الوازنة. ولأسباب موضوعية، وكنتيجة للتطورات العاصفة التي عرفها لبنان وسائر البلدان العربية، دخلت الإسلاميات على خطوط اللعب الداخلية، حاملة طموحاتها الإقليمية وتطلعها إلى فوز ما خارج ساحاتها، بحيث يكون الفوز تأكيداً لصواب الخط والخطة، ودليلاً على عناصر قوة الإيديولوجيا وقوة سلاحها، وفي الوقت ذاته، تهريباً لعناصر التأزم الداخلي إلى خارج الحدود الوطنية.
لعبت بعض الدول العربية اللعبة ذاتها، داخل بلادها وداخل جوارها، وقلدتها في السلوك الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي فتحت معاركها في العراق ولبنان وسوريا واليمن، بأدوات محلية تقول قولها وتستند إلى دعمها. لقد اعتمدت "إيران" الأسلوب العربي الذي يبقيها بعيدة عن المساءلة، وظنَّت مثل غيرها من الذين سبقوها أنها تخفي ذاتها خلف "إصبع" نفي التدخل في شؤون خارجها، على الرغم أن الإصبع قد أزاحته التطورات المتلاحقة، وجعلت الأصابع تشير إلى حقيقة الدور الإيراني اليوم، مثلما أشارت في السابق إلى سواه... ودائماً حسب مقتضيات مصالح أصحاب الأيدي وأصحاب الأصابع.
عود على بدء ليس من باب الظنون القول إن الوصي السوري السابق يدير معركة ذات الصواري مع الولي الإيراني اللاحق، في سوريا كما في لبنان، وما يدفع إلى الاعتقاد بذلك، هو أن استشعار الحاكم في سوريا تراجع حجم حاجته للإسناد الإيراني، يرافقه شعور متنامٍ بضرورة إعادة درس السياسات والحسابات المترتبة على هذا الإسناد.
دفع الثمن
في صفّ الدرس النظامي السوري، ثمة أكثر من معلم، وفي طليعة كل المعلمين يقف المعلِّم الروسي الذي هو مثل الإيراني لا ينطق بالضاد، لكنه بخلاف الإيراني لا يشكل طيفاً سورياً داخلياً يقلق سلاسة انتظام إلقاء القبض على الوضع الداخلي من دون دفتر شروط خارجية. ربما من المبكر القول بمعركة سياسية سورية إيرانية في سورية، لكن ذلك ليس مبكراً في لبنان، وتوجيه الأنظار إلى خارج مسرح العمليات الأصلي أمر يتقنه السوري منذ بيانه الإنقلابي الأول، ويعلمه الإيراني منذ بيانه الثوري الأول.. لكأن اللاعبين يديران "اجتهادهما" الناعم في لبنان بطريقة مكشوفة من قبل كل منهما، لكن الطرفين يستبعدان تحويل الاجتهاد الناعم إلى فتوى إفتراقية حاسمة.
أما لبنان الذي يبحر في مركبه "غير الخاص"، فموجود بين صارية عربية وصارية إقليمية، وحتى يأتي النبأ اليقين من ميزان قوى البحر، سيظل الأمر سجالاً بين "عاصمة الأمويين"، ومهد ثورة "العباسيين"، وهنا سجال ما زالت تدفع ثمنه "بيزنطية" اللبنانية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها