الثلاثاء 2018/11/27

آخر تحديث: 23:30 (بيروت)

عبد الرحيم مراد: النصب التذكاري

الثلاثاء 2018/11/27
عبد الرحيم مراد: النصب التذكاري
لا توقظه صدمة أولى ولا مئة صدمة تالية (علي علّوش)
increase حجم الخط decrease
"الرجل الذي لا يغيّر رأيه لا يغيّر أي شيء". والأسوأ في حال هكذا رجل، ويا للمفارقة، أنه يلهج بالثورة والتغيير.

هذا هو بالضبط عبد الرحيم مراد. النائب، والوزير، وعرّاب شبكة المدارس والجامعات والجمعيات. ماضويته وانشداده إلى التهويم التاريخي، تجعله هكذا صنمياً في الحضور، حجرياً في الأفكار. فالرجل هو نفسه كما عهدناه، قبل دهر وفي هذه اللحظة. جموده و"ثباته" أشبه بنصب تذكاري مغبر في أرض منسية.

هذه هي، على كل حال، سمات الشخصية "العقائدية"، تتمتع بتكرار تلاوتها لإنشاء محفوظ، وتهنأ بطمأنينة القناعات التي تشبه الكتيبات الحزبية، الفقيرة شكلاً ومضموناً.

سيرته كما تكون مطالع الروايات المستهلكة: فتى يبلغ سن الثالثة عشر، يتسمّر أمام الراديو أربع ساعات كاملة، مستمعاً لخطاب جمال عبد الناصر في مؤتمر باندونغ عام 1955. إشراقة وعيّ أو وجدٍ صوفي يحل فيه، ويستحوذ على كيانه.

تلك هي لحظة الولادة السياسية لعبد الرحيم مراد. فابن غزّة البقاعية، ونجل مختار القرية، الذي اعتبر نجاته صغيراً من الغرق في نهر الليطاني، ليست صدفة، وأن الحياة تدبّر له قدراً استثنائياً.. وجد في صوت عبد الناصر وكلماته ضالتَه. كانت هذه حال جيل عربي كامل: إدراك العالم وتصوره كمبارزة خطابية، وإدراك السياسة كخليط من الشعر والمسرح.

لكن، إذا كان عيش الرومانسية وجيزاً دائماً، كما أدرك ذاك الجيل بمرارة وخذلان، ابتداء من العام 1956 وصولاً إلى الهزيمة التامة عام 1967 والنهاية الكاملة عام 1970، إلا أن "رفعت الشبراوي"، الإسم الحركي لعبد الرحيم مراد داخل التنظيم الطليعي السري (التابع مباشرة لأجهزة عبد الناصر)، لا توقظه صدمة أولى ولا مئة صدمة تالية، فيظل هناك في لحظة الراديو الصوفية والطفولية.

"المناضل" العروبي سرعان ما سيدرك أن السياسة ليست كاريزما ميكروفون وخطبة عصماء (ربما لأنه لم يظهر موهبة فيهما)، وأنها إجرائياً، سلسلة مقايضات حميدة وخسيسة، تجارة بمعناها الكبير، مراكمة أرباح واستيعاب خسائر، مغامرة رأسمالها مشاعر الناس ورغباتهم. لم يعن ذلك إطلاقاً أي قفزة في الوعي، لا باتجاه براغماتي ولا باتجاه دوغمائي.

يشبه في ذلك طالب العلوم الذي يؤمن بالخرافات ويبرع في الفيزياء في الوقت نفسه. العلم بلا أفكاره. كأن نصفي دماغه لا يتواصلان على الإطلاق. وعلى هذا المنوال، السياسة عنده هي ممارسة ميكانيكية باردة، مواظبة بلا سأم على ترداد الشعارات الكبيرة، والمثابرة على ترتيب الصفقات الرابحة في آن واحد.

بمعنى آخر، راديكالية لفظية من ناحية، وانسيابية سياسية من ناحية أخرى. هذا "العقل" أنقذه من المصير الغامض والمريب كما هي حال الناصري الشهير ابراهيم قليلات، وجنّبه المصير المثير للشفقة كما هي حال الناصري الآخر كمال شاتيلا، وأبعده عن شعبوية نجاح واكيم. بل به متغلباً على حلقة رفاقه الأشد إصراراً على "النضال" كعمر حرب. انتهت حركات ناصرية وتنظيمات كثيرة متفرعة ومتشققة، وبقي هو هناك مع حزبه الأشبه بالوهم، طالما حذف منه "الاشتراكي العربي" دفعة واحدة وبقي فقط "الاتحاد" (اتحاد الحزب بذاته وحسب). ربما لا يجاريه في ذلك سوى المصري الشعبوي حمدين صباحي، مع فارق أن الأخير لديه جمهور فعلي.

أبو حسين، كما يحب أن ينادى، جسّد الناصرية بعد مماتها وتحللها. أي أن تتحول إلى "تراث صوتي" أشبه بالذريعة لسياسة بالغة المحلية، ريفية على الأصح، وأهلية، قائمة على روابط الدم وعلى أدوار أعلى من دور أبيه المختار. وجيه ثري يطلب ولاء محلته ومن هم بجوار مقامه وبيته. "زعيم" بلباس أستاذ مدرسة، قائد حزبي على هيئة مدير أعمال.

استطاع الاستمرار بفضل غريزة البقاء القوية لديه. فهو سريعاً انتقل بناصريته إلى "الوريث" العقيد معمر القذافي، حيث نجد الإيمان العروبي مجزياً لاقترانه بسخاء نفطي وبمشاريع بالغة النفقات. وسريعاً سيتملص من شقيّ "الاتحاد الاشتراكي العربي" (جناح "الأفواج العربية" وجناح "التنظيم الناصري") عندما يدرك مآل 1976، وبدء حقبة الأسدية في لبنان.

كانت البرازيل أكثر من ضرورة عمل وتحصيل ثروة إضافية، هي مرحلة انتقالية، تسهيلاً للتطبيع مع "البعث" شقيق الناصرية اللدود. بهذه السهولة، سيرى في حسن نصرالله وريثاً لجمال عبد الناصر، فالممانعة أصلاً انما مستلّة من لاءات الخرطوم العزيزة على قلوب أشباهه: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف.

رغم وصوله مراراً إلى السلطة، نائباً ووزيراً، وربما يعود قريباً، يبقى هكذا كألبوم عتيق من صور ممزقة وأسطوانة معطوبة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها