الخميس 2018/11/22

آخر تحديث: 00:14 (بيروت)

التفريط بالاستقلال سياسة مستدامة

الخميس 2018/11/22
التفريط بالاستقلال سياسة مستدامة
كأن الاستقلال اللبناني ما زال "وجهة نظر" (Getty)
increase حجم الخط decrease

يعجب بعض الكلام السياسي، اللبناني، من عدم التسليم، بداهةً، بشعار السيادة والاستقلال، مثلما يستهجن التلكؤ، الذي يبديه بعض لبناني آخر، في مجال الإنصراف إلى بناء وقائع "الشعار" الصلبة، وفق وصفة تبسيطية، فيها الاستنساب والعجلة والآنية، التي تخالف السياق التاريخي، لقيام الكيان اللبناني، ولا تنسجم مع التطورات اللاحقة، التي رافقت مسيرته السياسية.

 

التعريف المبهم

لدى تفكيك الشعار، نجد، وقائعياً، استقلالاً ناقصا، وسيادة معطوبة. في الميدان الاستقلالي، يتجلى النقص على صعيد بنيوي، أولاً وفي الأساس. هنا يجب ألاّ يغيب عن الذاكرة "السيادية – الاستقلالية"، الأصل الخلافي للنشأة الكيانية اللبنانية. لم تحجب المجموعات اللبنانية، التي جرى "حشرها" في دولة لبنان الكبير، هواجسها واختلافاتها، التي لم تختص بها مجموعة أهلية دون أخرى، بل توزعت، بوتائر مختلفة، على سائر المجموعات. نجم عن الاستقلال الناقص، نشأةً، نواقص استقلالية طاولت المتفرعات الحياتية اللبنانية عموماً. حتى اللحظة، ما زال تعريف الاستقلال "مبهماً"، وما زالت الاستقلالات الطوائفية، أشد رسوخاً منه! أما بناؤه، فتعثر، وما زال على تعثره، نظاماً وثقافة وسياسة واقتصاداً واجتماعاً، وديمقراطية، وعلى صعيد تجديد "العيش المشترك"، بين اللبنانيين، تجديداً لا يجرّ قاطرة تطورهم إلى الوراء... كما حصل ويحصل، بذرائع طائفية شتّى. ما ورد من معطيات، لا يدل على استقلال ناجز، مثلما لا يبشر باستقامة صيانة وحفظ ما أنجز من خطوات استقلالية حقيقية. يشرح ذلك معنى النقص الاستقلالي الذي يتجاوز الرغبات الفردية والفولكلور الجمعي، إلى مواجهة الحقيقة التي تقول: إن الاستقلال اللبناني ما زال "وجهة نظر"، مثله مثل كل القضايا المصيرية الكبرى، التي يقف اللبنانيون حيارى، على عتبات مشاكلها. عدم الاستقلال بالفكرة الاستقلالية، ومترتباتها الوطنية الداخلية، أدى إلى إصابة الفكرة السيادية أيضاً، ونال من ملاحقها التنفيذية.

 

في هذا المجال أصيبت "الوحدانية العملانية"، إذا جاز التعبير، كنتيجة، لإصابة "الوحدانية الولائية"، التي تختص بالوطن الواحد الجامع، دون غيره. لا يمكن الحديث ببساطة، في مجال السيادة، عن قرار عام واحد، ولا عن تنفيذ سلس واحد، بأدوات شرعية واحدة، ولا عن وحدة "الطاعة والاستجابة"، التي يبديها المواطنون، وفق نسق "مفهومي" واحد، لمعنى الالتزام بالقانون العام، والرضوخ لأحكامه.

 

تقاذف العناوين

لا يخفى أن "الوحدات" المذكورة، موزعة على المجموعات الأهلية، ومستويات الانضباط باتت أعلى في أنسقة العلائق ما دون الوطنية، وطابع الإذعان، لدى الأهل، طوعي على الأغلب، لأنه قائم على "المشروعية"، مما لا يجده المتابع لدى الانتقال إلى الشأن السيادي الوطني، العام. الاستقلال والسيادة، في مسيرة "اللبنانية"، مسألتان استنسابيتان، ومرجعيتهما التفسيرية، معاجم المصالح الفئوية، وقياسهما العملي، حراك الطوائف الداخلي، وعلاقات "ترسيم الحدود"، السائدة بين كل طائفة وأخرى. في الراهن السياسي الحالي، يكثر استعمال المفردتين، من قبل فرقاء التخاطب اليومي، وتساق أعلام السيادة والاستقلال، إلى منابر الحشو والتكرار اللفظي، الذي لا يدلي بجملة مفيدة حول المسيرة المقترحة لإعادة بناء الاستقلال، وحول الخطوات النظرية والعملية التي تفتح الطريق إلى محراب السيادة. ما يمكن استخلاصه من بين سطور الكلام الرائج، هو أن التحليلات الاستقلالية والسيادية، تخالف متطلبات البناء المستقل، ولا تؤدي إلى نسج ثوب السيادة نسجاً كاملاً، بحيث لا ترى بين ثنياته "رقع التدخلات الخارجية الفاقعة". للاستدلال على "مخالفة" الطامحين إلى بناء "الوطن السيد المستقل"، لأحكام طموحاتهم، يكفي الإدلاء بعينة من العناوين التي يتقاذفها المعنيون، دون إعمال الجهد اللازم، في مكوناتها ومضمراتها ومقتضياتها.

"خطاب الدولة"، واحد من العناوين. الجواب الفوري: لكن عن أي دولة تتحدثون؟

"خطاب المقاومة"، الجواب المباشر: لكن أية مقاومة تقصدون؟ وهل هي غاية أم وسيلة؟ وأين تبدأ وأين تنتهي؟ وما ضوابط عمل المقاومة؟ وكيف تندرج في السياق الوطني العام؟ وكيف لا تطغى، فئة أهلية، باسم المقاومة، على قريناتها؟

خطاب الوفاق، والسؤال الذي يتبعه: الوفاق حول ماذا؟ ما جدول الوفاق النظري؟ ما مؤداه العملي؟ وإلى الوفاق يضاف خطاب الشراكة "ورأسمالها ومردودها وتوزيع حصصها..."! ماذا تعني هذه "الحزمة" من الخطب غير هروب الساسة، وأولي الأمر الديني والدنيوي، من الأسئلة إلى... الأسئلة! والدوران حول الإشكالية، باستدعاء إشكالية أخرى!

 

الخاص والعام

إذا أردنا تقويم الأداء السياسي العام، على صعيدي الاستقلال والسيادة، لقلنا أنه أداء عاجز عن ملامسة القضيتين الآنفتين، ملامسة جدية وعميقة. أصل العجز، في بنية "أهل الكيان"، وتاريخه، من تاريخ تدرجهم بين ربوعه. لكن ما تجدر الإشارة إليه، هو أن القصور المنوّه عنه، غير ناجم عن قلة في الدراسة، أو بسبب الانصراف عن التحصيل النظري، بل إنه ناشئ، على الأغلب، ولسبب لبناني، عن "دقة المتابعة الشاملة"، للوضعية الخاصة، بكل مجموعة لبنانية، وصرف الجهد، في التنظير لها، وفي الحفاظ على مكتسباتها. ينشأ التناقض، إذن، من التركيز على الخاص، الذي ينال، في النهاية من العام، بل إن شرط نهوض الأول، الأهلي، كامن، في استمرار تعثر الثاني، المفترض أنه الوطني الشامل!

عليه، وحتى أمد طويل، تظل الحلقة البنيوية المفرغة، قدر اللبنانيين... ويظل الخروج من الدوامة، مرهون ببناء خطاب سياسي آخر، من خارج مفردات الطوائف ومصطلحاتها. وللتذكير، لقد ارتد اللبنانيون عقوداً إلى الوراء، عندما فرطوا باستقرارهم مطالع سبعينات القرن الفائت، وما زالوا يحصدون نتائج هذا التفريط، على شكل تراجعات وإخفاقات، بنيوية ووطنية واجتماعية متوالية... والتفريط سياسة لبنانية مستدامة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها