الثلاثاء 2018/10/16

آخر تحديث: 09:51 (بيروت)

جريمة خاشقجي.. استمرار ضرب السعودية حواضنها

الثلاثاء 2018/10/16
جريمة خاشقجي.. استمرار ضرب السعودية حواضنها
الحملات الإعلامية بشأن قضية خاشقجي تفوق التعاطف مع الضحايا في سوريا
increase حجم الخط decrease
لا نقاش في ضرورة تضامن الصحافي مع نفسه بتضامنه مع جمال خاشقجي. ولا حياد عن إدانة وشجب ما تعرّض له. الموقف هنا إنساني وأخلاقي قبل أن يكون مهنياً. وممتازة جداً عملية الضغط الإعلامية والسياسية العربية والدولية لكشف مصير صحافي شهير. ما جرى في الثاني من تشرين الأول 2018، نكسة للصحافة والسياسة والدبلوماسية. وهذه النكسة ستتداعى منها نكسات سياسية على صعيد العلاقات بين الدول. ولا بد من تسجيل بعض التعليقات على هوامش هذه النكسة وتداعياتها، ربطاً بمسار يلفّ الشرق الأوسط والعالم العربي منذ العام 2010.

حجم ضغط الإعلام الأميركي والعالمي على المملكة العربية السعودية لكشف مصير خاشقجي، والسقوف التصعيدية ضدها، وصولاً إلى بيانات رسمية لدول من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، على ضرورته، يعكس أن هناك استثماراً بعيد المدى ليس ضد السعودية فحسب، بل ضد الأكثرية في هذه المنطقة من العالم. قد تتحمّل السعودية جانباً أساسياً من المسؤولية في ذلك، ليس بسبب ما حصل لخاشقجي فحسب، بل نتيجة مسار سياسي غير واضح، وفي غياب رؤية استراتيجية لمسار الأمور في المنطقة.

الحملات الإعلامية التي أثيرت بشأن قضية خاشقجي، تفوق بأضعاف التعاطف الإعلامي مع مئات آلاف الضحايا في سوريا، مصر، العراق، اليمن والمنطقة برمّتها. عشرات الآلاف هجّروا من منازلهم قسراً، وأحدث تهجيرهم تغييراً ديموغرافياً ستكون له أبعاد استراتيجية لمئة سنة مقبلة. وعشرات الآلاف قتلوا ببراميل متفجّرة، وباستخدام الأسلحة الكيماوية، ولم ير العالم حجم تعاطف إعلامي معهم. لم تخرج لوبيات السياسة والإعلام العالمية في حملات مركّزة تدعو إلى اقتلاع بشّار الأسد من السلطة، كما هو حاصل منذ عشرة أيام، يصل بعضها إلى الدعوة لإقالة ولي العهد السعودي ووضعه في السجن ووصفه بالمجنون.

من سخرية القدر، أن يتركز الضغط على السعوديين من قبل "حلفائهم" بينما إيران تخرج ببيان هادئ وصامت، بأنها لن تعلّق على قضية خاشقجي قبل جلاء الحقيقة. إنقلاب الأدوار هنا، فيه شيء من الكوميديا السوداء. إذ لطالما لجأت إيران إلى استباق أي حادثة أو موقف لشنّ الهجوم على السعودية، واتهامها بأعتى الاتهامات. اليوم، يقع الدور على الأميركيين والأوروبيين بينما إيران تمثّل دور الحمل الوديع. والسخرية الأكبر، أن الموقف الإيراني يأتي بعد رأي سعودي بأن أي إجراءات أميركية ضد السعودية، قد تدفع المملكة إلى التقارب مع إيران، ومصادقة حزب الله. وربما هذا أكثر ما تتمناه الولايات المتحدة الأميركية، ولكن ليس الآن. الرهان الأميركي واضح في هذه المرحلة. إخافة الخليجيين بالإيرانيين تحت شعار الحاجة إلى الحماية الأميركية. وهذا ما تحدّث عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب لأكثر من خمس مرّات في أيام قليلة، قبل اختفاء خاشقجي. إذ قال إن على السعوديين دفع الأموال لحماية أنفسهم وأنظمتهم.

ليس المجال هنا للدخول في تحليل العملية الجرمية التي طالت خاشقجي ولا للبحث في ما جرى أو تعرّض له، ولا شك في أنه بشع ومدان. ولكن في قراءة التداعيات السياسية والاستراتيجية لما سيجري، لا بد من الوقوف لحظة تأمل، يجب على السعودية أن تقرر بعدها، في كيفية تغيير مسارها السياسي. الارتكاز التحالفي على الأميركيين أمر بديهي، ولا نقاش فيه، وربما من السذاجة الكلام عن فك التحالفات أو تغيير العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة، لأن في العلاقة شيئاً من القدرية. ما يتوجب على السعودية فعله، هو اعادة النظر، بمنظور واقعي للأمور، يرتكز على التفاهم الخليجي أولاً والعربي ثانياً، بما يدعم خيارات الشعوب وليس الأنظمة.

الغريب في ما يجري هو صبّ كل الاتهامات من قبل الإعلام السعودي على قطر وتحميلها مسؤولية خاشقجي. وهذا يبقى أساس المسار في التحول عن المغزى الأساسي للقضية. وهذا يعمل على اضاعتها وليس على جلائها ولا تصحيح الخطأ الذي حصل. الحملة المركّزة التي تتعرض لها السعودية لم ير العالم مثلها لإدانة ما فعله نوري المالكي في العراق، ولا بشار الأسد في سوريا، ولا الحوثيين أو غيرهم في اليمن. ولا يمكن فصل ذلك عن مسار عالمي جامع يؤمن بالتقارب مع إيران وحتى حلفائها وأذرعها على حساب التقارب مع السنّة، الذين ولّدوا قوى التطرف لسدّ ثغرات أنتجتها الأنظمة، مع العلم أن التطرف السنّي نشأ ردّ فعل على التطرّف الإيراني، وكل الأصوليات السنّية ولدت من رحم تأثير ولادة الأصولية الشيعية وولاية الفقيه. والأصوليتان ولدتا من غاية أميركية في مواجهة السوفييت. لكن، بالنسبة إلى العالم فإن الإرهاب الأقلوي أو الإيراني مقبول ولا نقاش فيه، أمام الإرهاب السنّي.

منذ شروع إدارة باراك أوباما في الذهاب إلى الاتفاق النووي حتى اليوم، تسود رؤية عامة في الولايات المتحدة والعالم، بشأن أهمية التقارب مع إيران، والارتكاز على التحالف مع الإيرانيين، مقابل عدم قبول العرب، ووسمهم جميعهم بالإرهاب. الموجة ذاتها تجتاح أوروبا المتعطشة إلى تسوية الخلاف الأميركي الإيراني والعودة إلى الاتفاق النووي وفتح السوق الإيرانية أمام الشركات العالمية. الأصوات السعودية المرتفعة ضد الأميركيين على خلفية ضغطهم وآلية الابتزاز لديهم، عادت وخفتت. ويذهب الهجوم في اتجاه العرب أو الطرف الذي من المفترض أن تستند إليه السعودية في علاقاتها التحالفية. بخلاف ذلك يتركز الغضب السعودي في اتجاه قطر وتركيا، عوضاً عن تغيير في الرؤية للتقارب معهما لمواجهة ما يمكن أن يحدث من تداعيات.

يوم استقالة الرئيس سعد الحريري من الرياض، وما رافقها من حملات واتهامات، كان على السعودية الاعتراف بالخطأ، والذهاب في اتجاه آخر للسياسة الخارجية. لكن ذلك لم يحصل. في لبنان تضامن البعض مع الحريري ليس حبّاً به، إنما للاستثمار في إبعاده عن السعودية، وبنتيجة الخلاف معها ومناصبة الخصومة والعداء لها، فأسدى الخطأ السعودي خدمة لهؤلاء بالتمكّن أكثر في لبنان، وبزرع الشرخ بينها وبين بيئتها الحاضنة.

لا شك في أن ما تتعرض له السعودية أمر مركّز ينطوي على أكثر من غاية، وتتلاقى معه مصالح قوى متعددة، تتضارب مصالحها مع مصالح الخليج والعرب. ما جرى لخاشقجي قد يكون لعبة في إطار جهنمي، له أهداف متعددة، أولها إبتزاز السعودية مالياً، تكبيلها أكثر سياسياً وفرض تنازلات عليها لم تكن على استعداد لتقديمها. في مقابل أن تحوّل قتل النظام السوري لمئات آلاف السورين وتهجير مثلهم أمر طبيعي لا يستحق أي نقاش، في ظل مسارعة الدول إلى الانفتاح عليه.

هناك كثير من القطب المخفية في ظروف وتوقيت اختفاء خاشقجي. وهذه متروكة للأيام لتظهرها. ولكن التداعيات السياسية بدأت في التجلّي، فيما تستند السعودية إلى أسلوب تقليدي كلاسيكي في المواجهة، عبر إصدار بعض دول مجلس التعاون الخليجي والدول المتحالفة معها بيانات تضامنية، ليس لها أي تأثير ولا تغير في مسار الأمور. وهنا الفارق الأساسي في الاستراتيجيات السياسية، أن السعودية ترتكز على بيانات أنظمة للدفاع عن نفسها. فلو تعرضرت إيران لمثل هذه الحملات والهجمات، لخرج ملايين الناس في الشوارع وميادين القتال للدفاع عنها، بدون حاجة واحدة إلى بيان إستنكاري لا يقدّم ولا يؤخر. معركة العالم مع السعودية والأكثرية في هذه المنطقة، أبعد بكثير من قضية خاشقجي وبأكثر من تحالف نفطي يطلق عليه مسمّى استراتيجي. وليس صدفة افتتاح معبر نصيب بين سوريا والأردن في اليوم الذي أراد الإسرائيليون فتح معبر القنيطرة بين سوريا والجولان المحتل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها