دخل الوضع العالمي منذ انتهاء الحرب الباردة عملية مخاض طويلة. ما زال المولود طيَّ أرحام الأيام، أما آلام المخاض فقد عرفت المراكز الرأسمالية بعض أعراضها، وكان الأوقع وجعاً في بنيتها الانقلاب الشامل على المنظومة "الأخلاقية" التي ادَّعت الرأسمالية العالمية أنها ملتزمة بقوانينها، وأن حركتها التاريخية منقادة إليها، وأن السعي "المركزي الرأسمالي" يضع نصب عينيه تحقيق "روح الرأسمالية" وغاياتها الإنسانية النبيلة.
لقد حملت التطورات التي تلت عقد تسعينيات القرن العشرين، وبعد انهيار الدولة السوفياتية وملحقاتها من الدول الاشتراكية، ما جسَّد حقيقة الروح الرأسمالية التي نادت الحركات الاشتراكية السياسية بدفنها، وفي طليعة تلك الحركات الشقّ الماركسي منها، الذي جعل الاقتصاد وعلاقاته الإنتاجية محركاً اجتماعياً تطويرياً وتطورياً. الاقتصاد كان هو الحاضر الرأسمالي الأساسي على حساب كل الأخلاق، وكانت أحواله وتقلباته خلف "نهاية التاريخ" الفوكويامي، وخلف الفوضى الخلاقة "البوشية"، ووراء العولمة التي صارت أمركة للعالم، وتصديراً تعسفياً للدمقرطة القسرية. ما أنجب حروباً متوالية افتتحها الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، واستكملها الرئيس الإبن من بعده، وما زالت فصول الأمركة الديمقراطية تتوالى في صحبة صحوات دولتية جديدة تتقدمها روسيا على صعيد دولي، وتسير في طليعتها إيران وتركيا على صعيد إقليمي، وتحتفظ الصين بحقها في المنافسة الطليعية بكلام سياسي قليل، وبأصوات الاقتصاد الهادرة.
على امتداد هذه الإنقلابية الأخلاقية والسياسية، كان الألم الأفظع والأشد توحشاً من نصيب بلاد "الأطراف" العالمية، ومع أن هذه لم تحمل لتلد، فقد كانت هي الأم البديلة التي ألقيت على كاهل جسدها كل آلام الولادة. لقد استجاب "الجسد الطرفي" طوعاً في نواح كثيرة من ألمه الاجتماعي والسياسي، لأن الألم كان هو الآخر منظومة "اعتقاد"، وكثيرون ظنّوا أن التطهر الطرفي يمر من مخاض العسر والشدّة كاختبار ما فوق دنيوي لا بدَّ منه، إذا ما أراد المتطهر إشباع دنياه بما يتجاوز حدودها الأرضية.
وما هو غائب، في سياق الفعل الرأسمالي الذي خرج عن أحكام إعلانات نشأته، هو نأي المراكز الرأسمالية حالياً عن ملامسة عتبة منظومة أخلاق تعاقدية جديدة، تحظى بالقدرة على إعلان إنسانيتها، وتتمتع بكفاءة تقديمها كصيغة عالمية. في حضور هذا الغياب، تمارس المراكز الرأسمالية، وفي طليعتها المركز الأميركي، سياسات عشوائية وتخريبية في البلاد التي لم تعرف الديمقراطية على الطريقة "الغربية"، والبلاد التي عاندت التزّين بأخلاقها، والبلاد التي خرجت عن طاعة "ولي الأمر" الديمقراطي الجديد، الذي هاله اكتفاء "أهل الكهف" الطرفيين بظلام كونهم، ولم يستسغ أساليب استقبالهم لحملاته التدميرية... التنويرية.
السمة الأبرز التي تطبع مجريات القرن الحالي، الذي بدأ بتأسيس قوانينه في تسعينيات القرن الماضي، هي سمة الضياع الرأسمالي العالمي في ظل ضحالة إنسانية فكرية شاملة، وفي ظل الافتقار إلى أفكار عظيمة يبادر بصياغتها مفكرون من طراز عظيم، كما كانت عليه الحال في أزمنة غير رأسمالية غابرة.
في مرآة الفقر النظري الغربي، بفصوله الاشتراكية والقومية والليبرالية، وعلى خطٍ موازٍ لغياب المفكرين والرجال التاريخيين في الغرب، يغيب القادة والمفكرون التاريخيون في "الشرق"، بحيث يجد العالم ذاته في حاجة إلى "نهضة أوروبية" جديدة، فلسفة وسياسة واقتصاداً، وإلى نهضة في الأطراف تعيد طرح بدايات لم تصل إلى نهايات ناجزة، في كل البلاد التي حاولت ديناً ودنياً، وفلسفة وسياسة واقتصاداً واجتماعاً فأخفقت على أكثر من صعيد، إن لم نقل على الصعد كلها.
هو قرن جديد، قرن مبصرين بلا عيون، مبصرون لم يتعلموا القراءة حسب الطريقة المعتمدة لإبصار العميان.
البحث عن نظام عالمي
أحمد جابرالأحد 2017/12/31

ما زالت نتائج حروب بوش مستمرة (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها