ظهر السيد سامي خضرا يتحدث إلى الكاميرا، مدافعاً عن زميله الشيخ نعيم قاسم. قال إن الهجوم على "العلماء" حرب ناعمة وإنهم سينتصرون فيها. بالتزامن، اضطر قاسم إلى توضيح ما قاله. اعتذر أم لم يعتذر، هذا ليس مهماً. فالشيخ والسيد، ومعهما جيش الكتروني، بمعظمه من الذكور، كان بدوره قد شن هجومه على من يهزأ من "علمائنا" ومن "ديننا" وعقيدتنا، إلى آخر النشيد المحفوظ.
توضيح الشيخ لا يعول عليه، تماماً كما كلامه عن المعلمات المطلقات، وكل هذا الرعب الذي كان يبثه في النفوس عن جلوس الأطفال من الجنسين في حافلة المدرسة ومقاعد الصف وخلافه. هذا ما يقوله الشيوخ في العادة. واجبهم المقدس هو أن يفقهوا في كل الأشياء. لكن، شغفهم الأساسي يدور غالباً حول المرأة. سامي خضرا يلحق بها محصياً عليها أنفاسها، في سوق الخضار، في علاقتها مع زوجها وأبنائها وأقاربها. يكاد يحدد عليها الأسنان التي من العيب أن تظهر على أبناء العمومة إذا ضحكت. مطارداته له على وسائل التواصل الاجتماعي هي الأكثر شهرة. يريدها ألا تنزلق إلى أن تكون مغوية للأشرار. فلتكن شجرة أو نهراً أزرق أو وردة جورية. قاسم بدوره ينصحها. لا تجلسي مع من يعشقن التبرج. السيد حسن نصرالله بارك الزواج المبكر. كل هذا من فرط الحرص على المرأة. في سبيل حمايتها من شرور الأفكار الغريبة الوافدة. وهي قاصر مثل الأطفال. وتحتاج إلى من يأخذها بيدها كيفما مشت.
وهم آباء مطلقون، يتخطون في سلطتهم المعنوية السلطة المفترضة للأب والأخ والابن على المرأة. فالعلماء في نهاية المطاف قوامون على القوامين على النساء. هذا كان وما زال المجرى الطبيعي لسلطتهم، في اتجاه واحد ومن أعلى إلى أسفل. يحكي الشيخ وينصت الذكور والإناث. تنتهي المحاضرة ولا يسمعها إلا من ذهب بقدميه إليها، أو وجد لها نقلاً مباشراً على قناته التلفزيونية المخصصة له وحده. وهيهات للهيبة أن تمس.
لكن، فايسبوك الخبيث أفلت الأمر من أيدي الجميع. المبجل الجالس في مقعده العالي يحكي وينفعل بكل جدية، سيجد كلامه مرفقاً بكل أشكال النقد، من التحليل الجدي وصولاً إلى الاكتفاء بايموجي لوجه ضاحك تنفر الدموع من عينيه. وديموقراطية هذا المكان الرحب تدمر، أول ما تدمر، المقدسات. الكلام الذي يبدو تاماً وأنيقاً حين ينزل من الشيخ إلى رؤوس أتباعه، تروح تتكشف عيوبه، إذ يسمع بآذان الآخرين، المختلفين، الأشرار بطبيعة الحال. الشيوخ لا يعنيهم هؤلاء. ليسوا من جماعتهم ولا يريدون لهم أن يكونوا. ما يخافونه هو تأثير الآخرين على صورتهم المقدسة عند اتباعهم. الجالسات والجالسون في فايسبوك، قد يبتسمون لتعليق على النقاش الفكري المحتدم بين العالم السيد نصرات قشاقش وزميله العالم تشارلز داروين. أو قد يستغربون أن خضرا لديه اهتمامات غذائية تتعلق بما يفترض تناوله قبل النوم مثلاً. شيئاً فشيئاً تنكسر الهيبة وهذه بداية النهاية. المنظومة التي من المفترض أنها صلبة قد تنهار باسرع ما يتصورون. وقد نصل إلى يوم تضحك فيه المرأة لبائع الخضار في السوق، وربما أنكى، للحام الحي.. ومن يدري، فقد تبحث مراهقة عن وثائقي حول نظرية التطور، وتفكر في أن هناك احتمالات أخرى لوجودها غير الطين، ولبقائها بكامل قواها العقلية والبدنية، إذا تطلقت يوماً. قد تجد أنها ليست بحاجة إلى أب مطلق يحدد لها مسارها من ألفه إلى يائه. ماذا سيفعل العلماء، والحال هذه؟
لا شك أن الشيوخ في ورطة. فهم بحاجة إلى فايسبوك لحبهم الشديد للظهور. لكنهم، في الوقت نفسه لا يصدقون كيف أن مطلق فرد يسيمهم بأسمائهم وينتقدهم ويتهكم بخفة من دون أن يرف له جفن. هؤلاء تعودوا على النظر إلى الناس كجماعة، وقسموهم بين "جماعتنا" وجماعات الآخرين. بهذا المنطق دخلوا إلى فايسبوك ففوجئوا بأن الذين فيه أفراد يتساوون جميعاً في الحق والقدرة على التعبير عن الرأي. والفردية عدوة المقدس. قد تكون صنعت في مختبرات تحت الأرض مثل الفيروسات التي تحدث عنها قشاقش، ومن سوء حظ الشيوخ أنهم عاجزون عن القضاء عليها.
لا مؤامرة تحاك ضد "هيبة" خضرا وزملائه. إنها مجموعة من ردود الفعل على المذهل مما يقوله الشيوخ. دفاعهم عن أنفسهم يكون بأنهم يخاطبون جماعتهم فحسب، "فدعونا لشأننا". رد الآخرين سيكون "ما بدنا"، مع إيموجي ضاحكة. ما العمل؟ الفوبيا من وسائل التواصل الاجتماعي تصل بالمصابين بها إلى زوايا داكنة ملآنة بأشباح المؤامرات، ولا حل إلا بالانسحاب الكلي والشامل من كل ساحات التواصل الاجتماعي. لكن، الشيوخ لن يخرجوا ويتركوا جماعتهم في هذا الوكر الشيطاني. ومن الواضح أنهم عاجزون عن ضبط الوكر وتطويعه. لا حل إلا بانسحاب جماعي عبر تحريم فايسبوك، فهو كالغناء والرقص والمصافحة باليد، لا يجلب على المؤمنة والمؤمن إلا خراب الدين والدنيا والآخرة.
فايسبوك، وماسنجر وواتسآب، وكل هذه الألفاظ الأعجمية الدخيلة يجب أن تكون حراماً بحرام. هكذا، يأمن الشيوخ إلى وسيلة التواصل الوحيدة التي يأنسون إليها ويمارسونها، التلقين باتجاه واحد، من فوق إلى تحت. هكذا، يختفي الصوت الآخر وتعود الهيبة إلى العمائم. هكذا، يبعدون المؤمنين عن شر التجربة والفضول والتشكيك. وهكذا يصلون إلى مجتمع تجيد فيه المرأة آداب الاستماع وتهذيب الامتناع عن كل ما يضر بها ولا تعلم به. المرأة المثالية.
سيكون انتصار خضرا وزملائه مدوياً إذا وقع مثل هذا الانسحاب، وبتكليف شرعي. لكنهم، لن يفعلوا على الأرجح. اللعبة مغوية وهذا المكان يجعلهم مرئيين. ثم أنهم لا يثقون بأن جماعتهم ستنسحب معهم. الأكيد أن قشاقش بصفته خبيراً في علم الاجتماع، يعلم أن مثل هذا الخروج مستحيل.
من الأفضل أن يبقى الوضع على حاله. ما فرضه فايسبوك عليهم هو أنهم بدأوا يعترفون مرغمين بوجود الآخرين، وبدأوا يقيسون كلامهم ويحسبونه جيداً، ويتراجعون عنه حين يبدو إلى هذه الدرجة نافراً على فايسبوك مع أنهم حين قالوه في الجموع لم يسمعوا ولو تنهيدة واحدة قد تفهم أنها اعتراض. فرض فايسبوك عليهم أن يتواضعوا وأن يضعوا أنفسهم، مرغمين أيضاً، في عقول المقابلين لهم. جعلهم يفكرون مرتين، وهذا ليس سيئاً لا لهم ولا للمؤمنين بهم. خفف عنهم وطأة الهيبة والقداسة المرهقة. جعلهم عاديين قابلين للنقاش والأخذ والرد. حتى أنه أظهر ليس سعة اطلاعهم على كل العلوم فحسب، بل أبرز قدرات ابداعية لم تصل إليها كل أفلام الخيال العلمي وكتبه حتى اللحظة. لولا فايسبوك، كيف كنا لنلتقي بعبارة إلى هذه الدرجة من فن السوريالية الخلاب: "إن خلية من كوكب آخر دخلت الغلاف الجوي للأرض ومنها ولد الكون". بديع فعلاً! يجب ترجمة هذه العبارة وإرسالها إلى صانعي الوجوه الصفراء الصغيرة ليرسموا لها إيموجي خاصة بها. من الظلم ألا تخلد مثل هذه العبارة بإيموجي.
الشيوخ والإيموجي الضاحكة
دانيال غريبالخميس 2017/09/28

توضيح الشيخ لا يعول عليه، تماماً كما كلامه عن المعلمات المطلقات (خليل حسن)
حجم الخط
مشاركة عبر
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها