newsأسرار المدن

وصاية الهيمنة الداخلية

أحمد جابرالسبت 2017/08/26
C:\Users\Rainbow10\Desktop\201411\20141123\تماثيل بيروت\99.jpg
المطالبة برحيل الجيش السوري كانت ردة فعل على اغتيال رفيق الحريري (علي علوش)
حجم الخط
مشاركة عبر

كثيراً ما يظن اللبنانيون أن "الغريب" مسؤول عن اللاإستقرار الذي يشكل ميزة تكوينية لبنانية. وقليلاً ما يفلح اللبنانيون في الخلاص من الغريب، إذ هم يستبدلون الشبكة الغريبة المهترئة بشبكة غرباء جديدة، كلما لاحت لهم بادرة استقلال بشؤونهم، وكلما ظنَّ من لا يدرك فرادة التبعية اللبنانية، أن ظرفاً ما خارجياً بات مساعداً لكي يفوز أولئك اللبنانيون باستقلاليتهم، أو بالتخفيف من قيود تبعيتهم الخشنة والناعمة.

انفجرت الانتفاضة السورية، فتفاءل من تفاءل بالنجاة من قيد وصاية النظام السوري وتدخلاته، لكن الردّ كان قد جاء سريعاً من قوى الوصاية الداخلية التي قالت "شكراً سوريا"، بعيد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري بقليل. اليوم، وبعد كل ما شهدته الجغرافيا السورية، تعلو أصوات لبنانية محذرة من عودة الوصاية السورية على لبنان. هذه الأصوات تطرح مسألة خاطئة إسمها العودة. أما الصحيح فهو أن الوصاية لم تخرج لتعود، والحقيقي أن الذي خرج هو الوجود العسكري النظامي السوري، لكن "ملائكة" سوريا اللبنانيين كانوا بالمرصاد لكل الذين توهموا خلاصاً، فوجدوا أنفسهم في النهاية بين براثن أخرى لذات "السبع" السوري، الذي تضافرت قوى خارجية للحفاظ على مخالبه. هذه الإشارة إلى معادلة الخروج والعودة، تستحضر قراءة راهنة، لما حصل منذ عام 2005 وحتى تاريخه.

وفق المعطيات، لم يمتلك اللبنانيون الذين نزلوا إلى الميادين مطالبين برحيل الجيش السوري قوة دفع ذاتي لحركتهم، فهذه كانت ردة فعل واسعة على عملية اغتيال رفيق الحريري، دعمها فعل خارجي حقيقي ضغط على النظام السوري ليخرج بقواته، وهكذا كان. منذ تلك الواقعة، فشل التجمع المعارض الذي سمي بـ14 آذار في ابتكار وسائل تطوير عمله، ونجح فريق الثامن من آذار في قضم "النشوة" الاستقلالية تباعاً، ولعب مع الداخل لعبة الربح بالنقاط، إلى أن قُيِّض له إسقاط الداخل بالضربة القاضية. من ساحة رياض الصلح في بيروت، إلى العمق السوري وإلى عدد من الدول العربية، ثبَّت فريق 8 آذار أقدامه، من ضمن معادلة وصاية خارجية ثنائية تجمع إيران وسوريا، وبرعاية داخلية تتشكل من الثنائية الشيعية، حركة أمل وحزب الله، وحول هذه الثنائية التفَّ حلفاء النظام السوري القدامى، وانضم إليهم بعض من الذين لم يفلحوا في متابعة الدرب الاستقلالي فعلاً، فعادوا إلى كنف الوصاية، بوساطة الأوصياء الداخليين، ثم سبقوهم في ميدان المزايدة، لغة قومية وصموداً مشرقياً وشعارية مقاومة.

الواقعية تتطلب رؤية الوضع السياسي الراهن كما هو. والرؤية الواضحة، أي غير المعتمة بضباب أسبقياتها، يجب أن تقرّ باختلال الميزان الداخلي اللبناني في صالح القوى غير "السيادية"، وفق تعبير الذين قالوا إنهم السياديون. الاختلال لا يبدو أنه مفتوح على تصحيح قريب، ولعل الأدق القول إن ترجمات الميدان الخارجي، وما تراكمه قوى الوصاية الداخلية من نجاحات لمشروعها، من شأنها أن تفتح الاختلال التركيبي اللبناني على اختلالات أخرى في بنية السلطة، وفي هيكلية الاقتصاد، وفي البنى الاجتماعية وما يرتبط بها من مسائل وتوابع ثقافية وتعليمية وإعلامية وسواها.

لقد راهن "السياديون" طويلاً على خارج يقوم مقامهم في تحقيق مطالبهم. لكن الخارج هذا كان دولاً وجهات رسمية، دولية وعربية، على اتصال بمجموع الخريطة السياسية التي تتداخل فيها مصالح المختلفين والمؤتلفين. لذلك لم يكن "خارج" 14 آذار حاسماً بمقدار حسم "خارج" الثامن من آذار. فالخارج الأول لم يكن صاحب مشروع تدخلي هجومي له بنوده المحددة على المستويات كلها، أما الخارج الثاني فقد أعلن استراتيجيته وطموحاته إلى أن يكون صاحب كلمة نافذة في لبنان وفي غير لبنان.

اختلاف الخارجَين هذا، جعل الخطوط الحمر للقوى الدولية والعربية متعرجة وملتوية، وحسب المصلحة التي لا يحتل لبنان فيها موقعاً حاسماً، وجعل الخطوط الحمر لقوى الهيمنة الجديدة متنقلة من موقع هجومي إلى آخر، من خلال مناورات سياسية وميدانية، تُخاصم الدولي والإقليمي المتردد شعارياً، وتتعاون معه ميدانياً. مثال إيران والمجتمع الدولي واضح الدلالة على ذلك، فهذه جعلت التعاون حاجة مشتركة، وبات دور إيران مطلوباً من قبل مناوئيها، مثلما بات وجود النظام السوري مع "أسده"، مطلباً من قبل الذين قالوا أن لا مكان له في العملية السياسية. ماذا كان وضع السياديين اللبنانيين ضمن هذه التطورات؟ كانوا على الهامش، ثم صاروا منسيين، واقتصر حضور بعض قواهم على البيئة المذهبية المتعاطفة مع بيئتها المذهبية في سوريا، من دون أن يكون للمتحمسين اللبنانيين المذهبيين غطاء رسمي أو شعبي كامل، من قبل الوسط الاجتماعي الذي ينتمون إليه.

ليس افتئاتاً القول، أن الخسارة الداخلية لبعض مكونات التشكيلة اللبنانية سيغيِّر من وجه الصيغة والعرف والميثاق، وليس بعيداً من الواقع القول إن عيِّنات من التغيير باتت موجودة ومن دون إعلان صارخ، لكن يوم الإعلان المدوي، عن عدم ملاءمة الصيغة التي كان معمولاً بها، لن يكون بعيداً.

يتكاذب اللبنانيون اليوم حول العيش المشترك، ومشاركتهم الراهنة محاصصة نهب، ويتبادلون حديث النأي بالنفس، وهم متورطون، ويتمسكون بسيادة غير موجودة، وينفون وجود وصاية راسخة، ويطلقون نفير الإنذار من أعلى أسوار الاستقلالية، والتبعية مقيمة في الداخل، ويتحدثون عن حرية الإرادة، وهم مسلوبو الحركة والقدرة حتى على المشاركة في كيفية إدارة حربهم وسلمهم.

الاعتراف بسوء الوضع دليل إلى الاعتراض عليه، هذا قبل الدعوة إلى عبارة: ماذا نفعل؟ وضرورة الاعتراف تكسب أهميتها من عمق المكابرة السائدة على ألسنة السياديين، عندما يلهجون بلبنانيتهم، وعلى ألسنة الأوصياء الجدد، الذين "اختبر الله قلوبهم بالتقوى".

ليس بالإمكان غير ما هو كائن، وصفاً وتحليلاً، والإمكان المطلوب في مواجهة ما هو كائن، مفتاحه القول: إننا نواجه وصاية متخلفة جديدة، من الخارج وفي الداخل. نقطة انتهى البيان.

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث