للنائب وليد جنبلاط مواقف واضحة ضد المارونية السياسية. منذ دخوله المعترك السياسي إلى اليوم، لم يخجل جنبلاط بمواقفه الشديدة الاعتراض عليها، وبمعزل عن الأسباب التي يعتبرها البعض شخصية أو مصلحية بالنسبة إليه وإلى تمثيله في الجبل. لا شك في أن جنبلاط، وآخرين، إنزعج من تحالف الثنائي المسيحي، وهو استبق أي خطوة قد يتخذها هذا التحالف ضده، فقرر الثناء عليه، وإعلانه السير في تسوية انتخاب ميشال عون رئيساً في وقت مبكر. في حينها، كان جنبلاط يضع نصب عينيه الاستحقاق الانتخابي، وأنه إذا كان على خصومة مع الثنائي فإن الوضع في الشوف لن يكون لمصلحته. سارت الأمور على قاعدة "رضينا بالهم، والهم لم يرض بنا".
الهمّ معروف بالنسبة إلى جنبلاط، وغيره من السياسيين اللبنانيين، الذين كانوا يرفضون نظرية الرئيس المسيحي القوي، وذلك استناداً إلى تجارب تاريخية سابقة. إذ إنه متى كان المسيحيون متحالفوين بالسياسة، فإن خطراً ما سيهدد البلد، وفي ذلك تجارب مازالت ماثلة في الأذهان، وجود كميل شمعون رئيساً للجمهورية وتفصيله قانون انتخاب 1957 بالإضافة إلى عوامل أخرى، أدت إلى إندلاع ثورة 1958، ومنذ العام 1970 ونضج تحالف الجبهة اللبنانية وممارستها في ذلك الوقت، أدى إلى حرب العام 1975. وهذا ما يخشى جنبلاط من تكراره في هذه المرحلة.
في سياق كلامه عن قانون الانتخاب، وتجديد مطالبتها باجراء الاستحقاق وفقاً لقانون الستين معدلاً أو العودة إلى التطبيق الكامل لإتفاق الطائف، مرر جنبلاط، سلسلة رسائل ما بين السطور، مفادها أنه لا قدرة لأحد على إلغاء أحد في لبنان، وأنه يرفض بالتعاون مع القوى الأخرى أي فكرة إلغائية من شأنها إعادة مشاهد الحرب الأهلية إلى الأذهان، وذلك في إشارته إلى الحفاظ على التنوع ضمن الحزب التقدمي الاشتراكي واللقاء الديمقراطي، وبالتفاهم مع القوى المسيحية المستقلة وغير المستقلة، وتيار المستقبل وحزب الله وحركة أمل.
توجه جنبلاط بشكل مباشر إلى الرئيس عون للحفاظ على هذا التنوّع، مذكراً بأن اللقاء الديمقراطي صوّت لمصلحته في الانتخابات الرئاسية، والرسالة هنا أنه لم يكن يتوقع أن يردّ الجميل له بهذه الطريقة الإلغائية، وبالكلام الذي نقل عن الوزير جبران باسيل في أحد اجتماعات اللجنة الرباعية، بأنه لن يسمح لجنبلاط تسمية نائب مسيحي واحد في كل لبنان.
وإذ عبّر جنبلاط بصراحة عن معارضته النسبية، لأن إتفاق الطائف لم يذكرها، مطالباً بإدخال تعديلات على قانون الستين، أشار إلى أن لديه العديد من الخيارات لمواجهة الصيغ التي يعتبرها إلغائية. وينظر إلى هذا الأمر وكأنه سيهدد وحدة الجبل من جديد، وهو يستند في ذلك إلى موقف الرئيس نبيه بري إنطلاقاً من العلاقة التاريخية بينهما. وموقف حزب الله الذي لا يريد إلغاء أي مكون، وخصوصاً جنبلاط الذي بواقعيته ومعرفته التوازنات في لبنان وكيفية إدارة النظام والسياسة فيه، قادر على توفير الحاضنة إلى الجميع، وخصوصاً إلى الحزب في حال قرر يوماً ما العودة من سوريا. كما أنه الوحيد القادر على ضبط الدروز وأثبت ذلك منذ ما بعد أحداث السابع من أيار. لذلك، لا يمكن استبدال هذه الزعامة وإن كان هناك بعض التفاوت في المواقف السياسية معها. وكذلك لا يبدو تيار المستقبل مستعداً للتضحية بجنبلاط أو التفريط بالعلاقة التحالفية معه. إلى جانب ذلك، يلتقي جنبلاط مع حزب الكتائب وتيار المردة والمسيحيين المستقلين على رفض صيغ باسيل الانتخابية.
يرتكز جنبلاط إذاً إلى خيارات سياسية للمواجهة، وهو لا يفضّل غيره، فلا يريد الشارع ولا استخدامه، ولم يعد يحبّذ منطق شارع وشارع مضاد. كما أنه يرفض العودة إلى منطق الحرب الأهلية، لكنه لن يسمح لأحد بإلغائه. منذ استعر حرب النقاشات حول قانون الانتخاب، يطغى على الرأي العام الدرزي منطق العام 1860، هذه اللهجة تخوّف جنبلاط من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وهو يسعى إلى عدم التصعيد كي لا تعود الأمور وتتخذ طابعاً طائفياً ومذهبياً في الجبل، لأن الدروز يعتبرون أنه ليس بهذه السهولة يمكن أن يتم السكوت عن محاولات إقفال بيت عمره مئات السنوات في السياسة اللبنانية.
ثمة من يعتبر أن صيغة باسيل المطروحة، وكلامه وأداءه في هذا الملف، أمور تُعيد الجبل إلى مرحلة الحرب الأهلية، وكأن أحداً لم يتعلّم من تجارب الماضي. يعود هؤلاء في الذاكرة إلى حرب الجبل، "في حينها، ظنّ الرئيس أمين الجميل أنه قادر على إلغاء الدروز، أو طردهم من أراضيهم، أو إلغاء الفعالية السياسية لهم. لكن السحر انقلب على الساحر، وأثبت أن أحداً لن يقدر على إلغاء الدروز أو إنهائهم، إلى أن جاء صاحب رؤية وبصيرة إسمه البطريرك نصر الله صفير، إنطلق من هذا المبدأ وكرّس مصالحة الجبل، التي يتغنّى بها جنبلاط، ويرفض مسّها بأي إنتكاسة". ويعتبر هؤلاء أن ما يقوم به باسيل اليوم سيسعى إلى إلغاء مفاعيل هذه المصالحة.
لا يريد جنبلاط إقفال الأبواب بوجه أي خيار، فهو يترك المجال للتصعيد في الموقف، لكنه أيضاً لا يريد إثارة أي حساسية مسيحية درزية. لذلك، فإن ما تضمّنه موقفه من إشارات تصعيدية، أتى في سياق ربط أي إنتقال في تغيير شكل وأساس قوانين الانتخاب بتطبيق الطائف وإلغاء الطائفية السياسية وتشكيل مجلس شيوخ، مع تعمّد تمرير إشارة إلى مراعاة المسيحيين في أن يبقى الرئيس مسيحياً، لكن مع تغيير مذاهب وطوائف المواقع الأخرى. وهذه صيغة تهدوية أو مخففة عن الإشارة إلى التمثيل وفق الأحجام الصحيحة وإنخفاض عدد ممثلي المسيحيين في البرلمان وغيره إلى ما يتناسب مع حجمهم.
جنبلاط والمارونية السياسية: رضينا بالهم والهم ما رضي فينا
منير الربيعالاثنين 2017/02/06

يرتكز جنبلاط إلى خيارات سياسية للمواجهة (محمود الطويل)
حجم الخط
مشاركة عبر
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها