كانت بداية خطاب السيد حسن نصرالله هادئة لدرجة أن سماعه تطلب رفع صوت التلفزيون على عكس ما كان يحصل سابقاً عندما كان ارتفاع صوت الرجل يدفع المستمع إليه إلى خفض صوت التلفاز. لكنّ في النهاية ليس المهم في خطاب السيد نبرته، سواء علت أو انخفضت، بل الرسائل التي يوجهها والتي لا يقولها صراحة ومباشرة في غالب الأحيان.
هكذا قد يفسّر البعض هدوء السيد بأنّه تنصل مسبق من المسؤولية عن أحداث قد تنشب. لكن لنركن إلى ما قاله السيد بعيداً من تأويلات كلامه. فهو أكد ضرورة حماية الاستقرار الداخلي، ونفى التحضير لـ7" أيار" او "قمصان سود"، مشدداً على انه لا مشكلة أمنية في لبنان ولا مؤشر للصدام. وهذا لا شك يطمئن عموم اللبنانيين خصوصاً عندما يسترجعون كلام الرئيس سعد الحريري الذي يؤكد هو الآخر على "حماية لبنان والاستقرار الوطني ومنع أي جهة من الانزلاق بالبلاد نحو الفتنة"، وكذلك البيان المشترك بينه وبين الرئيس نبيه بري، والذي عكس في لغته "الدينية" فداحة ما يجري بين المسلمين في لبنان.
لكنّ الهدوء الذي طبع كلام نصرالله عن الوضع اللبناني، وإن لم يخل من رسائل للحلفاء والخصوم، قابله مضي في تصعيد الموقف من القضايا الإقليمية، خصوصاً في مواجهة السعودية. أي أنّه جدّد دعوته لتحييد لبنان عن الصراع الدائر في المنطقة، لكنّه في الوقت نفسه أصر على الاستمرار في المواجهة "حيث يجب أن نكون"، ولم ينس أن يكرر مقولته الشهيرة "لنذهب ونتقاتل في سوريا" لا في لبنان، علماً أنّه أمل في استمرار الهدنة في سوريا. فما الجدوى من تكرار هذه الدعوة طالما أنّ خصومه لم يلبّوها في المرة الأولى، ولا يبدو انهم مستعدون لذلك هذه المرة، ناهيك بتناقضها مع الرهان على استمرار الهدنة؟
المهّم أنّ كلام السيد ينطوي على تناقض صريح بين الدعوة إلى تحييد لبنان وإصرار الحزب على الإنغماس إلى الآخر في الصراع الإقليمي من سوريا وصولاً إلى اليمن. حتى أنّ الرجل ذهب الى حد القول إن "أعظم وأفضل شيء قمت به في حياتي، هو الخطاب الذي قلته عن السعودية في اليوم الثاني لبدء العدوان على اليمن". فهل هذا الخطاب بات أهم من تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي في نظر السيد؟ في النهاية الأمر عائد إليه، وهو حرّ في تقدير أهمية أفعاله وفق منظوره. ما يهمنّا أن حرص السيد على تحييد لبنان يناقضه إصراره على المواجهة الإقليمية. فمن نافل القول إنّ إبداء النية في تحييد لبنان لا تكفي لتحييده، بل هي يمكن أن تفسر في النهاية على أنّها رغبة في تغطية عدم تحييده. فتحييد لبنان في النهاية ليس موقفاً كلامياً بل هو يحتاج إلى أفعال تؤكده. عملياً، من الصعب لا بل من المستحيل "فك الارتباط" بين "حزب الله الداخل" و"حزب الله الخارج"، إي أنّ قتال الحزب في الإقليم هو معطى داخلي أيضاً بمقدار، وربما أكثر، مما هو معطى خارجي. بالتالي القول أن دعونا نحيّد لبنان ونتقاتل في الإقليم لا تستقيم، لأنّ الانقسام الداخلي ليس مفصولاً عن الإنقسام الإقليمي، خصوصاً عندما يجاهر "حزب الله" بقتاله خارج الحدود وصولاً إلى اليمن حيث عُرض شريط فيديو أخيرا يظهر ما قيل أنه عنصر في الحزب يدرب عناصر من جماعة الحوثي.
وحتى دعوة السيد نصرالله السعودية لحصر المواجهة معه لا تحلّ المسألة، إذ أنّ هذه القرارات بغض النظر عن المستهدف بها، ليست بلا تداعيات سياسية على الساحة الداخلية بالنظر إلى ان الانقسام الحاصل هو بين حلفاء السعودية وحلفاء ايران في لبنان. بالتالي لا يفيد كثيراً الحديث عن التهدئة في لبنان إذا لم يُعمل على تأمين شروطها وفي مقدّمها انسحاب "حزب الله" من المواجهة الإقليمية، وهذا ما ليس الحزب في وارده على ما يبدو!
وما هو جدير بالتوقف عنده في كلام نصرالله أيضاً قوله إنّ "البعض يفترض أن حزب الله مضغوط ويريد قلب الطاولة، لكن أقول للعدو حتى ييأس وللخصم كي لا يخطئ والصديق كي لا يقلق، بأننا في وضع أفضل على الصعيدين المحلي والاقليمي"، مشيراً إلى أنّ "حزب الله" أقوى مما كان عليه قبل خمس سنوات. قد يكون هذا الكلام موجهاً لجمهور الحزب لطمأنته، وكذلك لحلفائه الذين وجه إليهم نصرالله عتباً غير مباشر بقوله أنه مستعد للمواجهة وحده، في دلالة ربما على امتعاضه من بعض مواقفهم سواء من الملف الرئاسي أو من العلاقة مع السعودية. لكنّه أيضاً تهديد مبطن للخصوم بأن "لا تجربونا فنحن نضبط شارعنا لكننا لن نسكت إذا تجاوزتم الخطوط الحمر".
وبهذا يضع نصرالله شروطاً للإستقرار حدودها عدم المس بما يعتبره الحزب خطاً أحمر. وهو في كلامه هذا يفصل مسألة الاستقرار عن أي ملف سياسي ويحصرها في ترتيبات يقوم بها كل فريق بما يحافظ على الستاتيكو القائم. أي أنّ الحزب غير مستعد اليوم لإطلاق أي عملية سياسية تساهم في "مأسسة" الاستقرار بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية، فهو يكتفي حتى اللحظة بـ"حزام الأمان" الذي توفره الحوارات القائمة. وهذا دليل على أنّ الحزب ما زال يعتبر نفسه في موقع قوة وقادراً على السيطرة على اللعبة الداخلية، وإلا لكان أبدى ليونة أكبر في مسألة رئاسة الجمهورية خصوصاً أنّ المرشحين البارزين إليها من فريقه.
لكنّ أوان "مأسسة" الاستقرار لم يحن بعد بالنسبة إلى الحزب ما دامت الأمور لم تتضح بعد في الإقليم وما دام الحزب مرتاحاً ومستمراً في المواجهة. وبالتالي يكون نصرالله أمس كمن قال كل شيء ولم يقل شيئاً، طالما أن كل كلامه عن تحييد لبنان يؤدي في حقيقة الأمر إلى زجّ لبنان أكثر في المواجهة الإقليمية!
نصرالله: تحييد لبنان بزجّه أكثر في المواجهة!
إيلي القصيفيالأربعاء 2016/03/02

أوان "مأسسة" الإستقرار لم يحن بعد بالنسبة إلى "حزب الله"
حجم الخط
مشاركة عبر
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها