newsأسرار المدن

دفن آخر معالم الدولة

منير الربيعالثلاثاء 2016/01/05
C:\Users\User21\Desktop\568a0c3bc361889c4e8b45ba.jpg
آخر من تعاطى السياسة بأخلاق
حجم الخط
مشاركة عبر

انتقل فؤاد بطرس الى الضفة الأخرى. هكذا من دون تكليف أو ألقاب. يختصر اسمه ما توافر في شخصيته من مزايا الدولة، في المراكز التي تبوّأها قضائياً وحكومياً، خصوصاً أنه كان السراج الأخير من الدولة التي أرستها المرحلة الشهابية. أحد أبرز فريق عمل الرئيس الراحل فؤاد شهاب لم يكن شخصية وطنية فقط، بل مرجعاً دستورياً وقانونياً، وشخصية ارثوذكسية منفتحة، ومتمسكاً بالكتاب – الدستور .
 

مثّل بطرس النخبة الارثوذكسية في عهد شهاب وما بعده، وبرع في وزارة الخارجية، فاستطاع انتزاع حقوق لبنان في المحافل الدولية، وتحصيل القرار ٤٢٥، وكان أول من أدخل الجيش اللبناني الى الجنوب في العام ١٩٧٨. حتى خلال اجتماعات "الطائف" لإنهاء الحرب وصوغ دستور جديد، كان لبطرس دور بارز. ويكشف في مذكراته عن اتصالات بينه وبين الرئيس رفيق الحريري خلال اول انتخابات بلدية بعد الطائف، عندما طلب الحريري منه العمل ليخوض المسيحيون الانتخابات، فطالب بطرس بأن تحصل على اساس المناصفة على غرار الانتخابات النيابية وقد نجح بذلك.
 

هو من أواخر رجال السياسة الذي يتعاطونها بقواعد أخلاقية، بغض النظر عن مدى الاختلاف والاتفاق مع الخصم او الصديق. وهو يشدد في إحدى وصاياه المذكورة في مذكراته على وجوب الالتزام الأخلاقي سياسياً، اذ يقول: "ينبغي أن يتصف أهل السياسة بمؤهلات وميزات وحكمة بما فيها الحقل الأخلاقي".
 

وعلى الرغم من مواقفه المناهضة للوجود الفلسطيني في لبنان ومعارضته لإتفاقية القاهرة، لكن تعاطيه مع الشأن الفلسطيني كان في قمة الأخلاقية والإنسانية، واقتصرت معارضته في الشقين السياسي والعسكري. ويسجّل أيضاً في سيرته أنه كان رافضاً لمفهوم الميليشيات، ولطالما وقف في وجه الرئيس بشير الجميل.
 

وصف بطرس بأنه أحد الرجالات المقربين من سوريا، لكن عملياً يده كما يد الرئيس الياس سركيس كانت قصيرة فيما العين بصيرة. وعلى خلاف ذلك لم يقدّم أي تنازل للنظام السوري، إلا أنه بقي حريصاً على علاقة جيدة معه. ويذكّر البعض بأنه رفض انشاء محكمة مشتركة بين لبنان وسوريا على خلفية اشكال الفياضية بين الجيش اللبناني والجيش السوري، ورفض التنازل عن هذا المبدأ والسماح للسلطات السورية التحقيق مع الضباط اللبنانيين، وحتى خلال مرحلة الوصاية كان الأكثر جرأة في نقض العلاقة غير الندية بين لبنان وسوريا، في أكثر من تصريح.
 

 لا شك أن اي سياسي لبناني قد تعترضه إشكالية التعاطي مع النظام السوري في تلك المرحلة، وغالباً ما كان يحصل الافتراق ما بين المبدئية والواقعية، وهذا ما كان عليه حال بطرس، الذي اضطر الى المهادنة في كثير من الأحيان، لكنه في مذكراته يكشف عن طبيعة مكنوناته ورؤيته للعلاقة مع سوريا، ويقول: في ٢٠ تشرين الثاني من العام ٢٠٠٠ التقيت الرئيس السوري بشار الأسد، وتبادلنا الآراء ووجهات النظر في العلاقات الثنائية، وأذكر أنه عندما سألني عما بالإمكان القيام به من أجل تحسين العلاقات اللبنانية السورية أجبت : لم يعد لدينا شيء نعطيه، ليس الممكن إلا أن نأخذ، على أن نبدأ اعادة النظر في كل الاتفاقات المعقودة بين البلدين في عهد والدك لأنها مجحفة بحق لبنان. ويضيف في مكان لاحق من مذكراته بأنه: "انطلاقا من خبرتي في العمل السياسي فقد كنت واثقاً بأن اجتماعاتي مع الرئيس السوري لن تصل الى نتيجة".
 

كان بطرس أحد عرابي ومنظمي مؤتمر وزراء الخارجية العرب في بيت الدين في العام ١٩٨١ خلال حصار زحلة، واستطاع المؤتمر التوصل الى وقف لإطلاق النار. وعلى الرغم من الاجتياح الاسرائيلي لبيروت في العام ١٩٨٢ لم يعقد أي اجتماع مع المسؤولين الإسرائيليين، على عكس كثر، ملتزماً المبدأ في العمل السياسي.
 

شهد بطرس أواخر أيام حياته ترهّل الدولة ومؤسساتها، وتمدد الفراغ والشلل فيها، ومع مواراته الثرى ثمة دفن لكل ما تبقى من قيم سياسية، إن في السياسة الخارجية اللبناينة، أو في الممارسات السياسية الداخلية، أو في كل المؤسسات الأخرى.. ومع دفن فؤاد بطرس، تدفن آخر معالم الدولة في لبنان، في ظل غياب "رجال الدولة".

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث