كلام عادي: التنديد بالتفجير الوحشي الذي أودى بحياة الأبرياء في ضاحية بيروت الجنوبية، وتوجيه أقسى النعوت إلى التنظيم الذي خطط له ونفذه، والحط من شأن الفكر الديني أو السياسي الذي يسوغ الفعل الإجرامي ويبرره ويدعو إليه. كل ذلك هو من جعبة أفكار اللحظة التي تجتمع فيها أيضاً عبارات التضامن والأسى، والدعوة إلى الترفع عن الانشغال بالقضايا الفرعية، وحصر الاهتمام بالقضايا الكبرى التي تهدد لبنان في أمنه واستقراره وعيش بنيه.
كلام ما بعد الكلام العادي: كيف يضع الداعون إلى الترفع دعواتهم موضع التنفيذ؟ وكيف يطرح الوضع اللبناني برمته على بساط البحث؟ وما هي القضايا الأبرز الجديرة بالبحث؟ وما هي التسوية الممكنة والضرورية المرتقبة، التي يمكن أن تخرج الوطن المتهالك من دوامة خطر الانهيار، لتضعه على سكة التعافي واستعادة " اللياقة" السياسية والوطنية، التي تكفل أن يظل وطنا مرحليا في هذه اللحظة، وبما يفتح الطريق أمام انتقاله آلى حالة الوطن " النهائي" الواضح السمات، والمحدد بما هو ثابت ومعروف ومعلوم من الصفات؟.
ليست المرة الأولى التي يتبادل فيها اللبنانيون الأسئلة، بل الأرجح أن حياة من بقي على قيد الأمل صارت سؤالا مستداما، لكن هول الفاجعة التي نزلت بالضاحية الجنوبية وضع كل استفهام في دائرة الضوء الساطع، مما يعني أن لحظة الموت الواسع التي تشاركها اللبنانيون باتت خارج لغة الإبهام والتعتيم. ماذا يعني ذلك؟ المعنى الأول والأساسي هو أن المناورة في الشرح السياسي باتت معلنة العقم، وأن التلفيق في التحليل صار كذبا معلوما لدي أغلبية اللبنانيين، وأن القفز من فوق ركام المأساة إلى الدعوة إلى الاستمرار في سياسات هي بعض من أساس هذه المأساة، يشكل مادة كلامية دموية تشكل بدورها تمهيدا لدورة دموية حقيقية، تتنقل أحداثها بين البلدان المجاورة، وفي داخل لبنان.
ومن دون اختباء خلف الجملة والتورية والكناية، فإن الخلاف الحاد يدور بين السنية السياسية والشيعية السياسية، وكما هو معلوم، فقد ارتفعت وتيرة الحدة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبعد إلقاء مسؤولية الجريمة على النظام السوري وامتداداته في لبنان.
تكفلت الأحداث العربية المتتالية بضخ مواد خلافية إضافية، كان منشؤها التدخل الإيراني في سوريا وفي سواها، وهذا أتى على صورة تدخل ذي هوية محلية إيرانية وذي هوية شيعية تولاها في لبنان حزب الله، واستجاب لها الطيف الشيعي في اكثر من بلد عربي، على ما هو معروف من قبل الجميع. تداخل المشتبكين في سوريا وفي العراق وفي اليمن، أعطى الهجوم على المنطقة صفة إيرانية، أي صفة مذهبية، وأعطى الدفاع صفة عربية أنيطت مقوماتها بدول الخليج على شكل غالب، فكان أن ألصق بهذا الدفاع من قبل خصومه صفة مذهبية أيضا.ً لقد فشل اللبنانيون في النأي بأنفسهم عن الأحداث العربية، وكانت صورة الفشل الأوضح في سوريا وفي العراق، ولاحقا في اليمن، وكانت الحاملة السياسية لكل ذلك، حملة الانخراط في القتال التي انساق إليها حزب الله، من دون اعتبار لحيثيات التشكيلة اللبنانية، ومن دون مراعاة لمقتضيات أعرافها ومواثيقها واستقامة سيرها السياسي الطبيعي.
لم تكن السنية السياسية في منأى من التدخل، بل هي فعلت ذلك بإعلان التضامن والمؤازرة رسميا، وباركت التصدي الذي قامت به تشكيلات القوى المقاتلة ضد التظام السوري وضد التظام العراقي، وربطت أجزاء من خططها في الداخل اللبناني بتطورات الموقف في الداخل السوري وفي بعض الدواخل العربية الأخرى، وغضت النظر عن المساهمات " الفردية والجمعية" لبعض المنظمات اللبنانية المذهبية، التي ذهبت للقتالإلى جانب شبيهاتها في سوريا وفي سواها.
لم يغب المنطق السجالي والتراشق بالحجج عن كلا "المعسكرين" المذهبيين المتخاصمين. فالمنطق " الإيماني" الذي حدا بحزب الله إلى التدخل في سوريا، واجهه منطق إيماني مضاد، وعبارة " أغزوهم قبل أن يغزوكم " ووجهت بعبارة من طرازها "العين بالعين والسن بالسن.."، هذا على صعيد الاستعانة بمأثور الحديث، أما في مجال الترجمة العسكرية لكل من العبارتين، فإن المبادأة بالهجوم هي ضربة استباقية، واستهداف الخصم بالعمليات خلف خطوطه هو نقل للمعركة إلى أرض العدو.
منطقان كل منهما منطقي في عرف أصحابه، ولكل منهما مرجعيته الاعتقادية التي لا يرقى إليها الشك، ولا يزعزع الإيمان بها الجهر " بالتخرصات " السياسية.
اذن، لم يكن في المتناول جعل الهدوء التام حالة لبنانية عامة، والنار التي أريد لها أن تبقى خارجية، ساهمت اليوميات اللبنانية في استدعاء حرائقها، إذ أن الساسة الحاكمون والمتحكمون أمعنوا في تفتيت المناعة الوطنية الداخلية، واسترسلوا في مجادلاتهم البيزنطية العقيمة، فكان من نتيجة ذلك بقاء سدة رئاسة الجمهورية خاوية، وفعالية الحكومة واهية، وبنية المؤسسات تتآكل تباعا، وما تبقى من قشرة ديمقراطية برلمانية نخرها سوس التمديد للسلطة التشريعية، وفي امتداد ذلك، بل في مواكبته، استشرى التناهب الطائفي والمذهبي، وتذنت أخلاق المسؤولية عن المصير الوطني، وانبعثت حقوق النقض المتبادلة بين أبناء " الهويات" المتنابذة، وكل ذلك في ظل إفقار متزايد لمجموع اللبنانيين، وفي ظل اعتماد سياسة شل وإبطال عصب الاعتراض الشعبي، واللجوء إلى تأمين الاحتشاد الأهلي المتفرق والمتنازع على خلفيات ما قبل وطنية أحيانا، وما فوق وطنية أحيانا أخرى، وغير وطنية في أكثر الأحيان، أي غير ملائمة ولا متوافقة مع مجموع المصالح التي تطال حياة مجموع اللبنانيين، عندما يكون المجموع لبنانيا.
والآن، وفي ظل هذه الوقائع المعروفة، ماهو السلوك الأقرب إلى الواقع؟ وما هي الحسابات التي يمكن أن تفتح باب الأمان للحياة اللبنانية؟.
لن يكون واقعيا الآن مطالبة حزب الله بالانسحاب من ميادين تدخلاته الخارجية، إنسحاباً فورياً، لكن سيظل منطقيا سؤال هذا الحزب عن رؤيته لكيفية خروجه المتدرج من هذه الميادين. والخروج ليس قراراً فرديا على حزب الله أن يبادر إلى صياغة كلماته، بل هو قرار لبناني عام أيضاً يلقي مسؤوليات سياسية على كل أطراف التشكيلة اللبنانية. مضمون المسؤولية ينطوي على آعادة تعريف تدخل الحزب في الخارج تعريفا سياسيا وأهليا.
على هذا الصعيد يجب أن تقرأ حركة الحزب بعيون المصلحة السياسية، أي بصفتها رؤية خاصة بالحزب لمعنى ومضمون مصالح الشيعية السياسية ووسائل حمايتها. هذا يتطلب كلمات إضافية تتعلق بالبدائل التي يمكن تقديمها للحزب عندما يطلب من الحزب التخلي عن رؤيته الخاصة لمصالحه. البدائل هي كناية عن مصالح ملموسة، وعن وسائل أمان وضمانات مطمئنة وموثوقة. إذن ماذا يمكن أن تقدمه التشكيلة اللبنانية الحالية للشيعية السياسية في نسختها الراهنة؟ من جهتها، ستكون الشيعية السياسية مطالبة بتقديم ضماناتها للشركاء الآخرين، وعليها أن تشرح ذلك من خلال سلوكها في الداخل، ومن خلال استعمال " حظوتها" لدى مرجعيتها الخارجية، هذا يعني أن على الثنائية الشيعية أن تعيد صياغة لبنانيتها الآنية التي لا يمكن تجاوزها، إذا ما أرادت للوطن الصغير الاستمرار، وان تشرح هذه اللبنانية لعمقها البعيد مع مطالبته باحترام أحكامها والمساعدة على جعلها قابلة للحياة. لكأننا أمام " رياض صلح" شيعي، يلاقيه من الطرف الآخر" بشارة خوري" سني، بحيث ينبعث لبنان آخر " لا ممر ولا مستقر"، وفق نسخة توازنات هي حصيلة لكل العقود التي توالت منذ انفجار الحرب الأهلية عام ١٩٧٥، حتى لحظة اليقظة من السبات الوطني العميق.
لا بد من ملاحظة مفارقة كيانية جديدة، هي أن الكينونة اللبنانية يعاد تفصيلها على يد خياط الإسلام السياسي، وأن المسيحية السياسية التي طابقت بين وجود الكيان اللبناني واستمرار وجودها في قيادته، قد تحولت إلى ملاحق تتوزع مقاعد دعم المتنازعين الإسلاميين، وقليلا ما توفق في ابتكار وصياغة تسويات بينهم، بما يمكنها من الفوز بالثمن الذي يتقاضاه كل من يحتل مركز الحكم بين الخصوم. لا يغيب عن البال هنا أن دور الحكم يقوم على وزن أهلي حاسم، وأن صياغة ما يتجاوز المختلفين تفترض جاهزية تتفوق في معناها ومضمونها على ما لدى فرقاء النزاع... والحال أن مكونات التشكيلة الواحدة تشرب من بئر واحدة ...
وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الخروج من الانفجار إلى اجتناب كل انفجار، لن يتوفر إلا بتسوية طائفية مرحلية، تضمن ديمومة السلم الأهلي الهش، وتعالج القضايا الأولية التي تحصنه، وترجىء ما هو خلافي إلى مواقيت أخرى، وتدير الحياة اليومية بعقلية الانتظار الذي لا يتوخى غلبة داخلية طائفية أو مذهبية، ذلك أن الغلبة هذه ممتنعة لبنانيا، والكسر الطائفي مستحيل. وبعد، هل نتعلم مما نعلمه؟ أن يظل التجاهل التاريخي مادة الحرائق القادمة؟
هدوء ما بعد .. الإنفجار
أحمد جابرالأحد 2015/11/15

لن يكون منطقياً مطالبة حزب الله الإنسحاب فوراً من الميادين، بل المنطقي سؤاله عن كيفية انسحابه المتدرج
حجم الخط
مشاركة عبر
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها