من نصدق.. العفو الدولية أم وزارة الداخلية السورية؟

أحمد مولود الطيّارالخميس 2025/11/06
Image-1762378410
هناك فصائل تحمل منظومة تفكير تكفيرية وانتقامية (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

في مشهدٍ يعكس هشاشة المرحلة الانتقالية في سوريا، انفجرت قضية "اختطاف النساء السوريات" في الساحل السوري وفي مدينة السويداء، لتكشف التصدعات العميقة في بنية السلطة الجديدة، وتضع المجتمع السوري أمام سؤالٍ موجع: من نصدق؟ رواية منظمة العفو الدولية التي تتحدث عن عمليات خطف ممنهجة ذات طابع انتقامي وطائفي، أم رواية وزارة الداخلية، التي تؤكد أن كل ما جرى ليس أكثر من "شائعات" ومبالغات إعلامية؟

 

في تقرير صدر أواخر يوليو/تموز 2025، أعلنت منظمة Amnesty International  أنها تلقت "معلومات موثوقة" حول اختطاف 36 امرأة وفتاة من الطائفة العلوية في محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة، تراوحت أعمارهن بين ثلاث سنوات وأربعين عاماً.وقالت المنظمة إن الضحايا وقعن بيد "جهات مجهولة"، بين شباط وحزيران، وأن بعضهن تعرضن للتعذيب، والابتزاز، وربما للزواج القسري أو الاتجار بالبشر.
وأضافت الأمينة العامة للمنظمة، أنييس كالامارد، أن "السلطات السورية الجديدة وعدت ببناء دولة لجميع السوريين، لكنها فشلت في حماية النساء والفتيات من الاختطاف والعنف"، مؤكدة أن بعض الشكاوى أُهملت أو تمّ تحميل الضحايا أنفسهن المسؤولية عنها.

التقرير جاء بعد أسابيع فقط من نشر لجنة تقصّي الحقائق السورية نتائج تحقيقها في مجازر الساحل في آذار، التي قُتل فيها أكثر من 1400 شخص، معظمهم من المدنيين العلويين، إثر اشتباكات بين ميليشيات موالية للنظام السابق وقوات تابعة للسلطة الجديدة. وهذا التزامن جعل تقارير العفو الدولية تبدو استمراراً لتلك السلسلة من العنف الطائفي الذي لم يتوقف رغم انتهاء العمليات العسكرية.

 

في المقابل، خرجت وزارة الداخلية في حكومة أحمد الشرع ببيانٍ رسمي مطوّل، قالت فيه إن لجنة خاصة درست جميع البلاغات الواردة منذ بداية العام، وعددها 42 حالة، لتخلص إلى أن حالة واحدة فقط كانت اختطافاً حقيقياً، بينما بقيت الحالات الأخرى ضمن تصنيفات: "هروب طوعي مع شريك عاطفي"، أو "هروب من العنف الأسري"، أو "ادعاء كاذب" على وسائل التواصل الاجتماعي.وأكد المتحدث باسم الوزارة أن الأجهزة الأمنية تعاملت مع البلاغات "بأقصى درجات الجدية"، داعياً المواطنين إلى "عدم الانجرار وراء الشائعات".

البيان بدا أقرب إلى إغلاق الملف سياسياً منه إلى كشف الحقيقة. فهو لم يتطرق إلى السياق الاجتماعي والسياسي الذي سبق حوادث الساحل، ولا إلى الاحتقان الطائفي داخل الفصائل المسلحة التي تعمل تحت مظلة الحكومة الجديدة.

 

بين الروايتين، الحقيقة الغائبة

ما يجعل رواية العفو الدولية أكثر إقناعاً ليس فقط سجلها الحقوقي الطويل، بل أيضاً معرفتنا بالبنية الأيديولوجية للقوى التي تشكلت منها السلطة السورية الجديدة.
فالتحالف الذي يقوده الرئيس المؤقت أحمد الشرع يضم عدداً من الفصائل ذات الطابع الميليشياوي الجهادي الإسلامي، التي نشأت خلال الحرب وتغذت على خطابٍ دينيٍ تعبويٍ يرى في العلويين والدروز "طوائف منحرفة" أو "كافرة". وهذه الفصائل لا تزال تحمل منظومة تفكير تكفيرية وانتقامية، ترى في جماعات بعينها "حاضنة للنظام السابق"، وتبرّر الانتقام منها باعتباره "عدالة إلهية".

من هنا يمكن القول إنّ الاختطافات، إن لم تكن سياسة دولة، فهي نتاج بنية أيديولوجية تشرعن العنف ضد المختلف، وتغذّيه بتأويلات دينية وأخلاقية.وبينما تحاول القيادة الجديدة الظهور بمظهر الدولة الجامعة، تتعايش داخلها قوى متناحرة، لكل منها مشروعها العقائدي ورؤيتها للهوية والمواطنة.وفي مثل هذا المناخ، يصبح الحديث عن "حوادث فردية" نوعاً من التهرب من الحقيقة.

 

إن حرص وزارة الداخلية على نفي "الاختطافات الممنهجة" لا يُقرأ فقط في سياق محلي، بل أيضاً في إطار الشرعية الدولية، التي يسعى النظام الجديد إلى ترسيخها بعد سقوط الأسد. فأي اعتراف بوقوع جرائم ذات طابع طائفي سيقوّض صورة "الدولة المدنية" التي يروّج لها في المؤتمرات والمنتديات الدولية.لذلك كان من الطبيعي أن تختار الداخلية سردية "التحقيق المنضبط" وتبرئة الأجهزة، حتى لو جاء ذلك على حساب ثقة المواطنين ودماء الضحايا.

ومن أجل قراءة واقعية، فان الحقيقة لا تختصر في تقريرٍ حقوقي ولا في بيانٍ حكومي. فما يجري في الساحل هو انعكاس لتوازن هش داخل السلطة الجديدة، بين "دولة" تحاول التماسك وبين فصائل مسلحة لم تتخلّ عن لغتها القديمة، حيث يعيش المجتمع بين خطابين:خطاب رسمي يتحدث عن "وحدة وطنية وسوريا لكل السوريين"، وخطاب ميداني يؤمن بأن "العلوي والدرزي كافر"، وأن العدالة لا تتحقق إلا بالانتقام.لهذا، فإن توصيف منظمة العفو الدولية لما يحدث على أنه "ممنهج" لا يعني بالضرورة أن السلطة المركزية خططت له، بل أن المنهج موجود في العقل الجمعي الميليشياوي الذي ترعرع على ثقافة التكفير، ويجد في ضعف الدولة غطاءً لممارسة انتقامه.

في الختام، بين رواية العفو الدولية التي ترفع صوت الضحايا، ورواية وزارة الداخلية التي ترفع شعار "الاستقرار"، تضيع الحقيقة كما تضيع النساء اللواتي اختفين. لكن المؤكد أن العدالة في سوريا لن تُبنى ما دامت السلطة تتجاهل تفكيك بنيتها الأيديولوجية، وما دام السلاح والعقيدة يتقدمان على القانون والضمير.فالمحنة ليست فقط في الخطف، بل في استمرار رؤية الآخر كعدوّ لا كمواطن.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث