بعد عقدين ونيف من وضع حجر الأساس، وفترات ممتددة من التعثر حتى فقدان الأمل، يفتح المتحف المصري الكبير أبوابه أخيراً. تتكىء صفة "الكبير" الملصقة بكلمة المتحف على ركاكة اللغة الرسمية. مع صفة الجِدة، في العاصمة الجديدة والجمهورية الجديدة، تشكل النعوت البسيطة معجم خطاب الدولة المحدود الخيال، حيث الضخامة واللمعان علامتا الإنجاز.
احتفالية الافتتاح العالمية التي حضرتها عشرات من الوفود الرسمية، تحمل أيضاً دلالتها شديدة المحلية. ثمة مصالحة علنية مع ميراث مبارك. وضع الرئيس الراحل حجر الأساس في مطلع التسعينيات، واليوم عاد وزير الثقافة السابق فاروق حسني ليلقي كلمة في الحفل. يكمل السيسي ما بدأه مبارك، ويستمر كهنة الدولة في طقوس التسليم والتسلم شبه الأبدية، متجاوزين قطيعة يناير العابرة والمنسية. وأي مكان أصلح لتلك الطقوس غير المتحف. لا يحضر الوزير الذي وضع المثقفين في الحظيرة وحده، بل وأيضاً رجال أعمال مبارك العائدون من السجون، أحمد عز وهشام طلعت مصطفى يجلسون أيضاً على منصة خاصة بهم. آل ساويرس الذين تولت شركاتهم الحصة الكبيرة من أعمال الإنشاءات في المتحف وتدير شركة أخرى لهم منطقة الأهرام، يغيبون عن الحفل، وهم الراغبون في أخذ مسافة في العلن بعيداً بخطوة عن السلطة السياسة.
على خلاف موكب المومياوات الملكية المتقن، أفسد حفل افتتاح المتحف ضوضاء على مستوى الرؤية والسمع، وكأن صنّاعه أرادوا أن يقولوا كل شيء في الوقت نفسه. في مشهد واحد مزدحم بالأصوات حد التخمة، يتداخل لحن قبطي مع أصوات الإنشاد الديني الإسلامي، وذلك على خلفية من الغناء الأوبرالي. باستثناء ذلك المشهد المشوش، تغيب موسيقى المصريين الغنية لصالح هوس بالفخامة الأوبرالية. الرحلة الطويلة لتمصير آثارنا ومتاحفها، تلك التي سارت بالتوازي مع حراك الاستقلال، يشينها في الاحتفال اختيارات موسيقية تعاني من عقد النقص أمام الآخر الغربي.
المتحف بوصفه صرحاً للوطنية وللفخر الجمعي بأسطورة الاستمرار، تثير احتفاليته المناوشات المملولة والمتكلسة حول الهوية، مضافاً إليها ثرثرة "الكيمتية" الفارغة المعنى، بينما تعيد فتاوى التحريم العتيقة نفسها. تزحزح الفرعونية المعقمة والمسالمة، هويات أخرى قد تكون أكثر إشكالية -إسلامية وعروبية وعالم ثالثية وإفريقية- عن مكانها في مصفوفة الانتماءات المصرية. القطيعة المحسوبة بألوف السنين مع حضارة المصريين القدماء، تجعل من الفرعونية تعويذة أو لوغو للاعتزاز الوطني لا انتماء له تبعات سياسية متجذرة في عالم الواقع.
بعيداً عن اقتصاد الرموز، تخبرنا التوقعات الرسمية المتفائلة عن مساهمة المتحف في زيادة الليالي الفندقية وموارد الدولة السياحية من العملة الصعبة، عن موضع المتحف المركزي في المخطط الاستثماري لاستخلاص الدخل من التاريخ، أو عن كيف يتحول الأثر إلى مورد لا ينضب للربح. اللافت هو أن الرئيس التنفيذي للمتحف متخصص في الاقتصاد وليس في علم المصريات كما جرت العادة في المتحف القديم. عبر تسوير منطقة الإهرامات وربطها بممشى طويل بالمتحف، تعمل آليات الفرز والإقصاء في الصرح الأثري بمنطق الكومباوند. رفاهية التمشية والنظر المتاحة في الداخل سلعة مكلفة لا يستطيع من في الجهة الأخرى من الأسوار تحمل كلفتها، وذلك في مدينة تتضاءل فيها متعة التنقل على الأقدام يوماً بعد آخر.
لكن المتحف في النهاية ليس مجرد مشروع عقاري أو مولاً لعرض المقتنيات التاريخية أمام نهم الاستهلاك السياحي، ولا هو مصنع لإنتاج الزهو الوطني بشكل آلي، هناك خلف بهرجة الاستعراضات وحسابات الربح والتكاليف، مختبرات ومرافق بحثية وإمكانيات للعرض وكوادر مؤهلة في علم المصريات. وقد يصبح المتحف بفضل هذا كله، مساحة لطرح الأسئلة ولإنتاج المعرفة النقدية بشأن الماضي، وفرصة لعموم المصريين أن يتعرفوا على تاريخهم القديم، الذي لا يعرفون عنه سوى القليل.
