لكننا لسنا جميعاً بشجاعة رنيم معتوق

عمر قدورالثلاثاء 2025/11/04
Image-1762205482
كانت عقوبة الإخفاء من أفظع العقوبات التي اعتمدها الأسد (الصورة لرنيم معتوق- عن الفايسبوك)
حجم الخط
مشاركة عبر

(إلى روح خليل معتوق التي تحررت أخيراً)

قبل ثلاثة أيام تم تداول ما نشرته الفنّانة رنيم معتوق على حسابها في فيسبوك، لمناسبة معرض تشكيلي لها، نقتطف منه: "ما الذي يتبقّى من الأمل... إهداء إلى والدي خليل معتوق، الذي ينتظرني منذ ثلاث عشرة سنة لأحرره، وأحرر روحي معه. في هذا العمل، أعلن أنا ابنته، نيابة عن والدتي وأخي، وفاة خليل معتوق رسمياً- ذلك الإنسان الذي أتقن الضحك في كل الظروف، وربما أيضاً في لحظاته الأخيرة، قبل إعدامه. بعد أن أثقلَنا الانتظار، وأرهقنا الأمل بعودته أو العثور على أي أثر له، قررنا أخيراً أن نقطع حبال الأمل، ونحرر روحه لتغادرنا بسلام. ننهي بذلك رحلة حياة لا تليق بها إلا أكاليل الشهادة-شهيد الحق والكلمة، شهيد العدل والإنسانية".

 

يستحق الشهيد الراحل خليل معتوق أن يُفْرَد له حيّز تكريمي واسع يليق بمناقبيته، فهو من بين قلّة من المحامين الشجعان الذين تطوّعوا للدفاع عن المعتقلين السوريين، قبل الثورة وبعدها؛ أي عندما كان كثرٌ من أدعياء اليوم يسبّحون بحمد سلطة الأسد. وأن تعلن ابنته خبر استشهاده على هذا النحو، فهي شجاعة لا تقلّ عن شجاعة الأب، مع عِلْمنا أن الشجاعة لا تورَّث بالضرورة.

يُقرأ بين سطور ما أعلنته ابنة الشهيد أن العائلة لم تتوصّل إلى أثر له، وبعد مرور ثلاث عشرة سنة وما فيها من تطورات، اتخذت قرار الإعلان عن الوفاة؛ أي التوقّف عن اعتبار الراحل مفقوداً لا يُعرَف مصيره بعد. استثنائية القرار تأتي من وجود مئات الآلاف من أهالي المفقودين في عهد الأسد الذين لا يعرفون مصير أحبّتهم بعدُ، ووفق إعلان الوزير الشيباني قبل يومين، هناك ما يزيد عن 250 ألف مفقود.

 

وإذا كان الأهالي بمعظمهم يرجّحون فرضية الوفاة أو الاستشهاد، بعد إسقاط الأسد وفتح السجون، فإن اتخاذ قرار شخصي مبني على محاكمة عقلية منطقية ليس سهلاً على الإطلاق؛ بل إن البشر في معظم التجارب المشابهة يميلون إلى تكذيب عاطفي لخبر الموت، ما لم يلمسوه فيزيائياً عبر جثة أو بقايا مادية تُثبت واقعة الوفاة. ونعلم أن هناك بين أهالي المفقودين، منذ أيام المواجهة بين الإخوان والأسد، لم يفقدوا الأمل نهائياً بأن يكون أحبّتهم أحياء، لأن أيّاً من الأسد الأب والابن لم يعلن يوماً عن تبييض السجون وإغلاق ملف المعتقلين والمفقودين، ولو بين جولة وأخرى من القمع.

لقد كانت عقوبة الإخفاء من أفظع العقوبات التي اعتمدها الأسد، فلم يقتصر على إخفاء المعتَقل وتعذيبه أو قتله؛ بل تجاوز ذلك إلى إخفاء أيّة معلومات عنه أمام أهله، ولم يكن الأمر متعلّقاً فقط بإخفاء الحقائق عن المنظمات الحقوقية الدولية. وقد نشأت تجارة فساد على هذا النوع من الترهيب، حيث كان الأهالي يدفعون رشىً ضخمة جداً لضباط وسماسرة يعِدُونهم بتقديم معلومات عن المفقودين، وقلّما حصلوا على معلومات صحيحة أو تشفي الغليل.

 

إذا كان الرقم السابق دقيقاً، فالحديث عن ما لا يقل عن مليون سوري معنيين بفقدان أكثر من ربع مليون شخص، وهي مأساة يصعب حلّها في وقت قصير، لجهة تقديم أجوبة شافية عن مصير المفقودين؛ هذه عملية تحتاج لسنوات طويلة فيما لو توفّرت البيئة المثالية لإجراء تحقيقات على درجة موثوقة من المهنية. لكن الاستسلام لهذا الواقع يعني ترك أهالي الضحايا يكابدون صراعاً بين العقل الذي يقرّ بمقتل أحبتهم والمشاعر التي ترفض هذه النتيجة، ولن يفيد مرور الزمن في التخفيف من هذا التناقض الرهيب.

من المؤكد أن منسوب الأمل تراجع كثيراً مع سقوط الأسد واقتحام سجونه، ثم تكذيب الإشاعات عن وجود سجون سرية غير تلك التي أُطلِق سراح المسجونين فيها. وهو الأمر الذي ربما ينسحب بدرجة أقل وضوحاً وصدمةً على حالات اعتقال في المناطق التي كانت خارج سيطرة الأسد، فمن المرجَّح مثلاً أن تنظيم داعش قد أعدم المعتقلين لديه، ولم ينقلهم عناصر التنظيم وهم في حالة فرار من المناطق التي كانوا يسيطرون عليها في أوج صعود التنظيم، وهو ما يصحّ منطقياً (من دون تأكيد لا نملك أمره) على العديد من حالات الإخفاء القسري التي ارتكبتها تنظيمات أخرى خلال السنوات الماضية، وفق ما ورد في تقارير حقوقية دولية. يُذكر أنه لم يُعلن عن تبييض بقية السجون يوم سقوط الأسد، ومنها سجون هيئة تحرير الشام في محافظة إدلب.

 

هذه مسألة أكبر من أن تُترك لأصحابها، من دون مدّ يد المساعدة لهم. والمساعدة المطلوبة تحديداً هي الصادرة عن هيئات لها قدرة على الوصول إلى معلومات ذات حد أدنى من الصدقية والموثوقية، تخوّلها الإعلان عن إغلاق ملف المفقودين لجهة انتظار أخبار عن كونهم أحياء أم لا. هذا لا يعني إقفال ملف المفقودين، وعدم السعي الجاد للحصول على معلومات تفصيلية عن كلّ منهم وعن مصيره؛ بل يعني تحديداً قيام هذه الجهة بالإعلان عما هو معروف بالعقل والمنطق لجهة مقتل المفقودين، وحتى إذا حدثت أعجوبةٌ لاحقاً وظهر أحد منهم فلن يكون سوى استثناء من ذلك العدد الضخم.

هناك منظمات حقوقية لها تاريخ في معارضة الأسد، ولها تاريخ في العمل على ملفات الإخفاء القسري، ويُستنتج من وجودها الحالي في دمشق أن الودّ غير مفقود بينها وبين السلطة الحالية. يمكن لهذه المنظمات، عبر التواصل مع الهيئة الوطنية للمفقودين أو أيّة جهة أخرى، العمل على استصدار تأكيد نهائي قطعي مفاده أن المفقودين في المناطق التي كان يسيطر عليها الأسد غير موجودين في أي مكان سري، وأنهم في عداد القتلى. التأكيد نفسه يجب الحصول عليه من الفصائل المتهمة بالإخفاء القسري لناشطين معارضين لها، أو بحالات اختطاف بغرض المبادلة. وبناءً على ذلك يُعلن، ولو لم يكن حكومياً، عن إقفال هذا الجانب من الملف الإنساني المؤلم جداً.

 

إن مساعدة أهالي الضحايا وأصدقائهم على إعلان الحداد هي واجب حقوقي وإنساني معاً؛ إذ يجب عدم تحميلهم هذا العبء فوق مأساتهم، ويجب عدم تحميلهم وطأة الانتظار لسنوات إضافية. وإذا كانت التحية واجبة لرنيم خليل معتوق ولعائلتها فأفضل تكريم لشجاعتها، هي وعائلتها، هو ألا يقاسي الآخرون ما كابدتْه من أجل هذا الإعلان.  

ليست سهلة علينا المطالبة بإعلان مبدئي عن مصائر المفقودين، وليست سهلة على أي شخص يدرك معنى الفقد ومعنى فقدان الأمل. لذا نحن نطالب منظمات بالقيام بهذه المهمة، لا أشخاصاً نحمّلهم عبئاً عاطفياً: ساعدوا أهالي الضحايا وأصدقاءهم على اللحاق برنيم معتوق التي كتبتْ: "هنا تنتهي قصة خليل معتوق، لتبدأ قصتنا نحن مع ما تركه لنا من نورٍ وإصرارٍ وحبٍ للحياة".

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث