سوريا في "سباق الفئران التنافسي"

إياد الجعفري الأحد 2025/11/02
الشرع في  "مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار" في السعودية (Getty)
أيهما الأفضل، إعمار سوريا بالديون، أم بالاستثمار
حجم الخط
مشاركة عبر

في مطلع تسعينات القرن الماضي، صاغ الأكاديمي المختص بالعلوم السياسية، فيليب سيرني، تعبير "الدولة التنافسية"، التي تحفزها على نحو أكبر الحاجة لجذب الاستثمار الأجنبي ضمن "سباق الفئران التنافسي في الاقتصاد العالمي المفتوح". إذ، وخلافاً للحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية، والتي ركزت فيها معظم الدول (خصوصاً في العالم الصناعي المتقدم) على التزامات التوظيف الكامل لأبنائها، وإعادة توزيع الضرائب بهدف تحقيق عدالة اجتماعية أكبر، وتوفير الخدمات الأساسية -وحتى الرفاهية في دول الغرب- تغيّر دور الدولة بعد الحرب الباردة، وفق سيرني، وأكاديميين آخرين يتفقون معه في هذه القراءة. إذ باتت الدول تميل أكثر فأكثر نحو تبني سياسات ليبرالية جديدة، تقوم على تقليص النفقات العامة، وإعادة تنظيم سوق العمل عبر لجم حقوق النقابات العمالية –إن تمكنت في دول الغرب تحديداً- وتقليص معدلات الضرائب، خصوصاً لمشاريع الأعمال. 

 

المفارقة أن رأس النظام المخلوع، بشار الأسد، حاول تبني هذا الاتجاه، منذ منتصف العشرية الأولى من حكمه. وتبلور ذلك بشكل جلّي عبر قرارات غير شعبية، كرفع الدعم تدريجياً، وتقليص النفقات العامة، وفتح السوق، وتقليص حماية الإنتاج المحلي. ويرى الكثير من المختصين أن تلك التحولات الاقتصادية- الاجتماعية في دور الدولة بسوريا، كانت إحدى أبرز الأسباب العميقة لانفجار العام 2011. وكانت أولى الإجراءات التي قام بها النظام المخلوع، بعيد الثورة، هو وقف إجراءات رفع الدعم وتحرير السوق. لكن المفارقة التالية، أن بشار الأسد عاد مجدداً لانتهاج النهج ذاته، بعيد العام 2018، حينما ظن أن نظامه تجاوز التهديد الوجودي. وتسارعت وتيرة الحد من الدعم الاجتماعي بعيد العام 2020، وسط تحذيرات مختصين محليين من انعكاسات ذلك على الاستقرار الاجتماعي الهش. ويُعتقد أن ذلك كان أحد الأسباب العميقة لانفكاك قاعدته الاجتماعية عنه، وعدم انخراطها في القتال بجدّية، عشية انهيار نظامه، خريف العام 2024. 

أما المفارقة الثالثة على هذا الصعيد، أن سوريا في "العهد الجديد"، تتجه بالاتجاه نفسه. وكأنها حتمية، لا مفر منها. فالقوانين الضريبية المزمع تطبيقها قريباً، تحابِي بالفعل قطاع الأعمال، بصورة خاصة. كذلك هناك اتجاه جلّي نحو خفض سريع وفق مبدأ "الصدمة" للنفقات العامة والتزامات الدولة تجاه مواطنيها، في الخدمات الأساسية. من ذلك قرار رفع أسعار الكهرباء أخيراً. ناهيك عن الحديث الملتبس من مسؤولي "العهد الجديد"، عن طبيعة "الخصخصة" المزمعة لكيانات خاسرة في القطاع العام. 

 

وتزخر أدبيات العلوم السياسية، منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، بالجدل حول حتمية أو عدم حتمية الاتجاه نحو "الدولة التنافسية"، بالمعنى الذي صاغه فيليب سيرني. تلك الدولة المهووسة بجذب الاستثمارات الخارجية نحوها، بأي ثمن. لأن ذلك هو السبيل الأمثل لنهوضها، اقتصادياً. 

الاتجاه الأول، ما يُعرف بأنصار "العولمة الكبرى" أو "عولمة الأعمال"، ويضم اقتصاديين ورجال أعمال وساسة، يعتقدون منذ عقود أن العالم يتجه، حتماً، ورغماً عن إرادة مختلف الدول، نحو اقتصاد السوق العالمي، الذي تشكّل الشركات متعددة الجنسيات، قوته الدافعة. وأن من يتخلف عن هذا الركب، سينعزل ويصبح خارج العالم، بالمعنى السلبي للتوصيف. ويمكن أن نجد آراء مؤيدة لهذا الاتجاه في أوساط "العهد الجديد" بسوريا، من مسؤولين أو اقتصاديين مقرّبين من السلطة، يرددون توصيفات تتفق مع هذا الرأي. واتضح ذلك بشكل مباشر، حينما انفجر الجدل بخصوص رفع أسعار الكهرباء في اليومين الماضيين. فإعادة إعمار قطاع الكهرباء، يتطلب استثماراً في البنية التحتية المدمّرة. وهذا الاستثمار لا تملك سوريا موارده المالية، لذا فهي مضطرة لأحد خيارين. إما خيار القروض من صندوق النقد والبنك الدوليين، وهو ما يتطلب تحرير أسعار الكهرباء وفق الاشتراطات المعتادة لهذه الجهات الدولية التي تركز على قدرة الدول على سداد القروض. أو خيار جذب الاستثمار الأجنبي نحو هذا القطاع المُغري، وذلك يتطلب أيضاً، تحرير أسعار الكهرباء، كي يصبح الاستثمار الأجنبي ممكناً. سوى ذلك، هو إعادة هيكلة وتأجيل للتشوّه المزمن في قطاع الكهرباء، جراء دعم خدمة لا غنى عنها للسوريين، لكن الدولة لا تملك القدرة على توفيرها، بمواردها الذاتية. 

 

مقابل أصحاب هذا المنطق، هناك في الأدبيات العالمية –وانعكاساتها المحلية السورية- اتجاهات أخرى، تأخذ مسافة من مبدأ "الحتمية" ذاك. لكنها تقرّ بضرورة تكيّف الدولة وفق مبدأ "التنافسية"، المشار إليه أعلاه. وعلى يسار هذا الرأي، نجد اتجاهاً عريضاً لعدد كبير من النظريات والتفسيرات التي تفنّد مبدأ "الحتمية" ذاك، وترفضه. ويتحدث هؤلاء عن رأسمالية جديدة صاعدة، عابرة للحدود، تمثّل "تحالفاً" بين رؤوس الأموال، خصوصاً في الدول الغنية. ويحاول هذا "التحالف" تطويع الأفكار والقناعات لدى مختلف شعوب العالم، كي تتقبّل مبدأ "حتمية" الاتجاه نحو تحرير الأسواق وفتحها لصالح هذا "التحالف" بالذات. ونجد تجليات مصالح هذا "التحالف"، متمثلة في مؤسسات ومنظمات اقتصادية دولية، مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين. ناهيك عن "محافل" سنوية تلتقي فيها نخبة هذا "التحالف"، من رؤوس أموال ومدراء تنفيذين، إلى جانب ساسة، لصياغة تفاهماتهم. من ذلك، المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي يُعقد سنوياً في دافوس السويسرية، ونسخته الشرق أوسطية، "مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار" –دافوس الصحراء- في السعودية، والذي حضر الرئيس أحمد الشرع، وكبار مسؤولي حكومته الاقتصاديين، نسخته التاسعة، قبل أيام. وهو المحفل الذي حضره مدراء تنفيذيون لصناديق استثمارية تتجاوز أصولها الـ100 تريليون دولار، وفق صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية. وبغض النظر عن مدى دقّة هذا الرقم الهائل، يمكن لنا أن نقرأ حضور سوريا الرسمي، لأول مرة، في هذا المحفل، على أنه انخراط في "سباق الفئران التنافسي"، وقبولاً لقواعد اللعبة، بموجبه. من أولى تلك القواعد، رفع الدعم، وتحرير الأسواق والأسعار.

 

ولتحرير الأسواق بالذات، استثناءات مقبولة وفق قواعد اللعبة في هذا "السباق". وهي وجهة النظر الوسطية، في هذا الجدل، والتي تقول بضرورة بقاء درجة من الحمائية والدعم لبعض أصناف الإنتاج المحلي. لكن يبقى أن الخط العام للمنخرطين في هذا "السباق"، نحو جذب الاستثمار الأجنبي، هو تحرير الأسعار، بصورة تجعل السوق المحلية المستهدفة، جذّابة للمستثمر الأجنبي.

ولا يفيد الجدل الأيديولوجي على هذا الصعيد بين يسار ويمين وخلافه. إذ لكل رأي نقيضه المدعوم بالكثير من الحجج. كذلك لا يفيد كثيراً ذاك الجدل حول أيهما الأفضل، إعمار سوريا بالديون، أم بالاستثمار؟ فلكلا المنهجين، سلبياتهما الكثيرة. في حالتنا السورية، يبقى الجدل المفيد هو محاولة الإجابة على هذين السؤالين: أيهما الأنسب، مبدأ "الصدمة" أم التدرج في التحرير؟ وهل يتحمل المجتمع السوري ذاك التحول، أم سنكون أمام انفجار جديد؟ وهما سؤالان، تبدو الإجابة عليهما قيد التجربة الخطِرة الجارية الآن في سوريا. 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث