تعالوا نصدّق ما تقوله الكهرباء!

عمر قدورالسبت 2025/11/01
الكهرباء سوريا (Getty)
ليس من لمسة سحرية للتعافي من الخراب الحالي الموروث (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

أثار رفع تسعيرة الكهرباء المنزلية صدمة كبيرة، فضلاً عن قرارات تصبّ في المنحى نفسه لرفع تسعيرة الكهرباء المخصّصة للاستهلاك غير المنزلي؛ الصناعي والزراعي. سببٌ رئيس من أسباب الصدمة هو تراجع الأوضاع المعيشية للنسبة الغالبة من السوريين، أصحاب الدخل المنخفض، وهؤلاء كانوا يمنّون أنفسهم بتحسن مقبل. أجواء التفاؤل التي أشاعها مسؤولون في السلطة، وإعلاميون ومثقفون تابعون لها، ساهمت أيضاً في تضخيم حجم الصدمة، ولا يُستبعد أن تترك أثراً مشابهاً في المستقبل القريب.

 

الارتفاع في التسعيرة الجديدة كبير بالمقارنة مع التسعيرة السابقة، بحيث أن تسخين الماء للحمّام أو استخدام فرن الكهرباء لمرة واحدة يساوي الفاتورة وفق التسعيرة القديمة. وفي تصريح لوزير الاقتصاد محمد نضال الشعار رأى أن الكهرباء "لسنوات طويلة كانت تُقدَّم بأسعار مصطنعة، بوصفها أداة سياسية استُخدمت لشراء الصمت، في حين كانت ثروات الوطن تُنهَب". مضيفاً: "نفتح صفحة جديدة قائمة على الصدق والمصارحة، ونرفض كل أشكال الخداع أو استغلال حاجات الناس.. نحن نصحح ما كان مصطنعاً ونحوّله إلى حقيقي بشفافية وعدالة، لنضمن استدامة قطاع الطاقة وقدرته على تلبية حاجات الوطن".

يُذكر أن الوزير الشعار محسوب على التكنوقراط من خارج هيئة تحرير الشام، ويُفترض أنه يعني تماماً ما يقول بما يخص تصحيح تسعيرة الكهرباء، وإن لم يُشر إلى التراجع عن نمط اقتصادي سابق كان مفهوم الدعم الحكومي من ضمنه، وفكرة دعم الشرائح الأفقر موجودة حتى في أنظمة رأسمالية، بما في ذلك المساعدة في كلفة الطاقة الكهربائية. استغلال النظام السابق موضوع الدعم سياسياً كان يحدث أحياناً عبر التذكير بالكلفة الحقيقية للكهرباء والخبز وسواهما، لإظهار الدعم بما هو منّة من السلطة، لكن ثمة كلام كثير بين فضح ذلك الاستغلال وإلغاء الدعم نهائياً.

 

يُستفاد من كلام الوزير تأكيده صواب إجراء رفع أسعار الكهرباء، ليكون التراجع عنه ضمن نطاق التسييس أيضاً إذا حدث من مستوى أعلى، ما لم يكن مصحوباً بتوجُّه اقتصادي واضح لدعم الشرائح الأشدّ فقراً. مرة أخرى يجدر التذكير بأن الواقع الذي يشير إليه الوزير يتنافى تماماً مع أجواء التفاؤل التي تفتري على الواقع، التي يشيعها على الأغلب أشخاص تسمح لهم أوضاعهم بعدم الاكتراث بفاتورة كهرباء قد تستهلك ربع دخل موظف بعد الزيادات الأخيرة.

المسألة لا تتوقف عند صحة التسعيرة الجديدة بناءً على الكلفة، وعلى محطات وشبكات متقادمة لا تقدِّم الأفضل على صعيد الجدوى، وليس المطلوب استعادة نمط الدعم القديم. المطلوب هو ربط هذه الإجراءات بغيرها، سواء على صعيد رفع الأجور أو خلق فرص عمل جديدة بعائد مناسب. ومن الضروري أن يقدّم وزير الاقتصاد تقريراً شاملاً موثَّقاً عن حالة الاقتصاد السوري الراهنة، وعن الوعود الاستثمارية ذات الصدقية، وعن الآفاق الممكنة لا تلك التي يروّجها مَن ليس لهم أدنى علاقة بالمفاهيم الاقتصادية، ويُنكرون الواقع المزري حتى إذا وُضِع أمام أعينهم.

 

في الواقع، إن المطلب السابق بمنزلة تحدٍّ لقدرة الوزارة المعنية على تقديم تصوّر أولي شامل للكارثة السورية، فالأرقام المتداولة هي من مصادر أممية، ويفيد البعض منها بحاجة سوريا إلى 500 مليار دولار لإعادة الإعمار، في حين ينص أشدّها تفاؤلاً عل الحاجة إلى 216 مليار دولار. وإذا أخذنا الرقم الأدنى ففحواه حاجة سوريا إلى 20 مليار سنوياً لمدة عشر سنوات لإعادة الإعمار فقط، أو 10 مليارات سنوياً لمدة واحد وعشرين عاماً.

الكلام عن الاعتماد على القدرات الذاتية فيه الكثير من المبالغة، ومن الإنشاء الموروث من الحقبة الفائتة. فإمكانيات استخراج النفط مثلاً، في حدود الجدوى وعدم استنزاف المخزون عشوائياً، لا تفي بالحاجة المحلية، والتقارير الأممية المختصة تشير إلى ذلك منذ سنوات لم يتغير خلالها شيء. وعلى الصعيد الزراعي، من المعلوم أن سوريا من البلدان المهدَّدة بعوز مائي شديد، وقد ساهمت حرائق السنوات الأخيرة في انحسار الغطاء النباتي، وكذلك ساهم في انحساره التحطيب المتعمد بغرض التدفئة للأشجار الحراجية والمثمرة. يُضاف إليها الأراضي التي تضررت بفعل الأسلحة والألغام، والبعض منها بحاجة إلى استصلاح قبل عودتها إلى الدورة الزراعية المعتادة.

 

أما على صعيد السياحة، فلن تكون سوريا مقصداً وفق الأسعار الحالية، إذا استثنينا تماماً الظروف الأمنية وما يتصل بها. اليوم كلفة السفر والإقامة في فندق في دمشق والتكاليف الأخرى خلال أسبوع تناهز الألفي دولار، وهذا رقم ليس بالقليل. الرقم نفسه يدلّنا على شريحة السوريين في أوروبا القادرين فعلاً على زيارة سوريا، لأن شريحة هي الأوسع من اللاجئين السوريين في أوروبا لا يسمح دخلها بدفع تكاليف السفر، مع التنويه بأن أوضاع هذه الشريحة ليست الأسوأ بين اللاجئين.

إن أقلّ احترام لأوضاع السوريين تحت خط الفقر وتحت خط الجوع يتطلّب التوقف عن إنكار الواقع، وعن ترويج صورة وردية عنه. هو الواقع المعيشي نفسه تقريباً الذي كان الأسد يُدان على التسبب به، ويمكن لمن يشاء العودة إلى تقارير الأمم المتحدة عن الأوضاع المعيشية قبل سقوط الأسد، والاستئناس بها لأنه لم تحدث نقلة كبرى لتغيِّر في هذه الأرقام.

 

ليس من لمسة سحرية للتعافي من الخراب الحالي الموروث، لكنّ تجاهله لن يكون إلا إمعاناً في المزيد من الخراب. الضخ الغزير المتواصل على السوشيال ميديا، وفي الإعلام أحياناً، لا يصنع اقتصاداً ولا معيشة، ولو سجّل نجاحات في الحضور الافتراضي. أيضاً الاستعراضات التي تنفع في الاستهلاك الافتراضي لا نفع لها في عالم الاستهلاك الواقعي، وهي بمنزلة تريند يُنسى بسرعة. هكذا لن يعوّض المتضررين من رفع تسعيرة الكهرباء قولُ مدير الاتصال في وزارة الطاقة: ستتوقف الكهرباء عن القصر الجمهوري والرئيس إذا لم يدفع الكهرباء. ولا يعوّضهم احتفال بعض أنصار السلطة بتحقيق لرويترز جاء فيه أن الشرع أقصى واحداً من أشقائه وآخرين غيره بسبب شبهات فساد، وبالطبع لا يطرح المحتفلون أسئلة عن دور القرابات والمحسوبيات في السيطرة على المواقع السياسية والاقتصادية، وكيف استشرى الفساد خلال فترة قياسية. 

ما تقوله تسعيرة الكهرباء الجديدة بآثارها هو أصدق من التصريحات التي لا أساس واقعياً لها، ولا يُحاسَب أحد على إطلاقها، ثم إطلاق المزيد منها. لذا، تعالوا نصدّق ما تقوله الكهرباء! 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث