في فترات التحولات الكبرى ، تميل السلطات الجديدة إلى البحث عن إطار سياسي مُنظَّم، يوحد صفوفها ويُعبر عن مشروعها الوطني. من هنا تبرز فكرة تأسيس حزب قريب من السلطة ، يُقدم بوصفه الأداة السياسية للمرحلة الجديدة. وقد تبدو هذه الخطوة منطقية، خصوصاً بعد انهيار نظام قديم، أو أثناء بناء مؤسسات دولة ناشئة. لكن يبقى السؤال الجوهري ليس في تأسيس الحزب بحد ذاته؛ بل في توقيت نشأته وطبيعة علاقته بالسلطة، وبما سيكون أداة لتنظيم المشاركة السياسية أم وسيلة لإعادة إنتاج الولاء.
التاريخ يُظهر أن الحزب الذي يؤسس قبل ترسيخ الحياة السياسية والمؤسسات الدستورية غالبا ما يتحول إلى وسيلة للسيطرة لا للمشاركة، حتى لو حمل خطاباً إصلاحياً. فحين لا تكون هناك قواعد واضحة للمنافسة ولا مؤسسات تفصل بين الحزب والدولة، يصبح الانتماء للحزب طريقاً للنفوذ لا وسيلة للتعبير. في مثل هذه الحالات، يجذب الحزب حوله الانتهازيين والوجوه الإدارية القديمة ورجال الأعمال الباحثين عن القرب من مركز القرار لتمرير مصالحهم، ومع الوقت يذوب الفارق بين الحزب والحكومة، فيفقد الحزب مصداقيته بوصفه قوة سياسية مستقلة. أما إذا جاء بعد ترسيخ التعددية وضمان المنافسة، فقد يشكل خطوة ضرورية نحو الاستقرار السياسي وتنظيم العمل العام.
لكن الصورة ليست سلبية بالكامل. فتأسيس حزب قريب من السلطة قد يكون خطوة ضرورية في سياقات معينة، خصوصاً عندما يهدف إلى بناء الحياة السياسية من الصفر أو إلى توحيد الرؤية الاقتصادية والاجتماعية للدولة الجديدة. حينها يمكن للحزب في هذه الحالة أن يكون جسراً بين القيادة والمجتمع، وأن يُسهم في صياغة هوية سياسية جامعة، شريطة أن يدار بطريقة ديمقراطية ويقبل بالمنافسة والتعددية.
التاريخ العربي يقدم مثالاً بارزاً عبر تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي. نشأ الحزب بوصفه فكرة قومية تدعو إلى الوحدة والحرية والاشتراكية، أسسها مفكرون مثل ميشيل عفلق وصلاح البيطار وزكي الأرسوزي. في بدايته، كان البعث مشروعاً نهضوياً يسعى لبناء وعي قومي جديد ضد الاستعمار والتجزئة، واستقطب مثقفين وفلاحين وعمال وطلاب من مختلف الطبقات. لكن التحول الجوهري وقع عندما وصل إلى السلطة في سوريا في العام 1963 ثم في العراق في العام 1968. إذ تحول الحزب من إطار فكري إلى جهاز سلطوي، وارتبط وجوده ببنية الدولة والأمن. حينها أُلغيت التعددية، وأصبح الانتماء للحزب شرطاً للتوظيف والترقي، حتى فقد معناه السياسي الأصلي. وبمرور الوقت، لم يعد البعث حزباً يعبر عن المجتمع؛ بل أصبح الحزب الذي يحتكر الدولة نفسها. هذه التجربة تبرز المخاطر التي تترتب على تأسيس حزب قبل ترسيخ الحياة السياسية.
في المقابل، هناك تجربة مغايرة في تركيا مع حزب العدالة والتنمية. عندما أسسه رجب طيب أردوغان ورفاقه في العام 2001، كانت تركيا تمتلك حياة حزبية قائمة ومؤسسات دستورية واضحة. الحزب لم ينشأ بوصفه أداة للسلطة؛ بل بوصفه منافساً داخل نظام تعددي، فدخل الانتخابات في العام 2002 وفاز بالأغلبية. ومع أن الحزب أصبح لاحقاً الحاكم بلا منازع، إلا أنه استند في بدايته إلى شرعية انتخابية حقيقية، وبرنامج إصلاحي واقتصادي جذب شرائح واسعة من المجتمع. وقد استطاع الحزب في سنواته الأولى أن يجمع بين المحافظة الدينية والانفتاح الاقتصادي، فحقق استقراراً سياسياً ونمواً اقتصادياً جعل منه نموذجاً إقليمياً في الجمع بين الإسلام السياسي والعملية الديمقراطية. لكن التجربة التركية نفسها تحمل وجهين، في مرحلتها الأولى كانت مثالاً على حزب قوي داخل نظام ديمقراطي، أما في مرحلتها اللاحقة فقد أظهرت نجاح الحزب في استمرار التوازن بين الحزب والدولة.
من هذا المنظور، يمكن فهم ما يقال اليوم عن محاولات الرئيس أحمد الشرع في سوريا استلهام نموذج مشابه؛ أي بناء حزب جديد قريب من سلطته، لكنه لا يحتكرها، حزب يهدف إلى دمج قوى المجتمع المختلفة في إطار سياسي منظم، ويقدم نفسه بوصفه واجهة للتجديد الوطني لا للاستبداد القديم. الفكرة في جوهرها تقوم على أن يكون الحزب قناة تنظيمية تساعد المرحلة الانتقالية على إدارة التعدد السياسي بدلاً من منعه، وتخلق توازناً بين الشرعية السياسية والتمثيل الشعبي. لكن نجاح مثل هذا المشروع سيعتمد على أمرين، أولاً: البيئة التي يؤسس فيها الحزب، حيث يجب أن يكون هناك دستور وقانون أحزاب وانتخابات حرة. وهذا غير موجود حتى اللحظة. ثانياً، ما يرتبط بطبيعة العلاقة بين الحزب والسلطة وهل سيكون الحزب جزءاً من التعددية، أم التعددية ستكون جزءاً منه؟
في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، تم إقرار القانون الأساسي في العام 1949 أولاً، ثم تأسست الأحزاب الكبرى مثل الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي. أي إن النظام حمى التعددية قبل أن يفتح الباب للأحزاب. وفي بولندا بعد سقوط الشيوعية، وُضعت الدساتير وضمان حرية الأحزاب والإعلام قبل إنشاء الأحزاب الجديدة، فظهرت كيانات مستقلة نجحت في ترسيخ تداول السلطة.
خلاصة القول، إن تأسيس حزب قريب من السلطة ليس خطأ بحد ذاته، لكنه يصبح خطيراً حين يبنى قبل الدولة أو يقدم بوصفه بديلاً عن التعددية. الحزب الناجح هو الذي يعيش داخل النظام السياسي لا فوقه، والذي يمثل المجتمع أمام السلطة، لا السلطة أمام المجتمع. وإذا أرادت أيّة دولة في مرحلة انتقالية أن تنجح في هذه المعادلة، فعليها أن تبني السياسة أولاً، ثم الحزب بعدها، لا العكس.
