الإيرانيات، بالتأكيد، "فلتوا عالآخر". بهذا التعبير استهل موقعه على الفيسبوك في 15 المنصرم المستشرق الروسي البارز والمتخصّص بالشؤون الإيرانية نيكيتا سماغين Nikita Smagin) ) وهو ينقل عن BBC شريط فيديو. والشريط يصور مجموعة كبيرة من الفتيات الإيرانيات حاسرات الرأس، وهن يتجولن في شوارع طهران على الدراجات النارية التي تحظر قيادتها على المرأة، ومعظمهن يرتدين بنطلون الجينز. والشريط يضج بضحكاتهن وأحاديثهن مرتفعة الصوت، وموكبهن يتجول بين السيارت المارة، يحمل الكثير من الفرح بالانتصار الموعود على "حجاب الملالي". وهو الانتصار الذي خطت طريقه الصبية مهسا أمينيي باستشهادها في العام 2022 في أقبية شرطة الأخلاق بسبب قصور الغطاء عن "ستر" شعر الرأس. ولم يخطئ من كتب على ضريح الصبية "لقد أصبحتِ رمزاً"؛ إذ كان يدرك أن موجة الاحتجاجات التي أطلقها استشهادها، والتي كان إسقاط النظام أحد شعاراتها، ستنتهي يوماً بخضوع نظام الملالي إن لم يكن بسقوطه.
وبموازاة الشريط هذا، تداولت وسائل التواصل الإجتماعي في الفترة الأخيرة شريط آخر يصور مجموعة من الإيرانيات يتحلقن حول نار ملتهبة، وتتقدم كل منهن وهي ترقص ملوحة بغطاء رأسها، ثم تقذف به في النار. لكن الموقع الإستوني delfi قرر في 27 المنصرم أن يتحقق من تاريخ تصوير الشريط، فوجد أن التلغراف البريطانية كانت قد نشرته أثناء احتجاجات العام 2022.
السلطات الإيرانية لم تلغ بعد قانون فرض الحجاب على الإيرانيات الذي نصّ عليه الدستور الإيراني. وتشكل مسألة الحجاب نقطة تجاذب بين جناحي السلطة، الإصلاحيين والمحافظين، الذين لا يزالون يتحكمون بعملية اتخاذ القرار. والإصلاحيون ببراغمايتهم يحاولون التخفيف من وطأة إلزامية الحجاب في ظل الوضع الاجتماعي المتأزم في البلاد، خصوصاً بعد حرب الاثني عشر يوماً. فقد صرح الرئيس الإيراني في أيلول/ سبتمبر المنصرم لشبكة NBC أن النساء يجب أن يمتلكن حق الاختيار في ارتداء الحجاب. لكن ما أربك الإعلام في الأيام الأخيرة، وجعل بعضه يكتب عن إلغاء قانون إلزامية الحجاب، هو تصريح ممثل مجلس تشحيص مصلحة النظام محمد رضا باهنر للصحافيين في 3 الشهر المنصرم، حين قال إن قانون "الحجاب والعفة" الذي أجل المجلس الأعلى للأمن الإيراني إقراره في أيار/ مايو المنصرم "قد فقد قوة القانون"، وفق موقع DOXA الروسي المعارض في 9 الشهر المنصرم.
تفاقَم ارتباك السلطات الإيرانية بشأن قانون إلزامية الحجاب مع انتشار شريط فيديو على وسائل التواصل الإجتماعي، يصور الاحتفال الباذخ بزفاف ابنة مستشار المرشد الأعلى علي شمخاني. وقد أثار الشريط شكوك بعض مواقع الإعلام بصحته، لأن حفل الزفاف قد جرى في ربيع العام 2024 في أفخم فنادق طهران. لكن أحداً لم يشكك في صدقية الفيديو، وأنه لم يجرَ تركيبه؛ بل ثمة من له مصلحة في نشره الآن لما يبرزه من ازدواجية المعايير والفرق الشاسع بين مستوى حياة أهل النظام ومستوى حياة الشعب الإيراني في ظل البطالة وفلكية أرقام التضخم وانهيار العملة الوطنية.
يظهر الفيديو علي شمخاني من دون ربطة عنق، يمسك بيد ابنته العروس ويخطو معها متمهلاً عبر الصالة نحو المنصة، حيث ينتظرهما العريس وهو حليق الذقن يربط papillon، وتقف إلى جانبه سيدة متوسطة العمر حاسرة الرأس، وترتدي فستاناً ليليكي اللون كثير الانفتاح على الصدر.
الصحيفة الألمانية Frankfurter Allgemeine Zeitung خصت العرس بنص كامل، نقله إلى الروسية في 27 المنصرم الموقع الأذريoxu. وقد عنونت الصحيفة الألمانية نصها بالقول "ثوب زفاف مكشوف لابنة مستشار خامنئي وازدواجية معايير الملالي". وبالفعل يظهر الفيديو العروس بثوب أبيض مكشوف الصدر والكتفين، تغطي رأسها طرحة العروس الشفافة المعروفة.
تقول الصحيفة الألمانية إن فستان العروس من إنتاج ماركة إسبانية شهيرة، وحفل الزفاف جرى في ثلاث قاعات في أفخم فنادق طهران، وكلف شمخاني حوالى 2 مليون يورو. أما ثوب العروس فتقدرت الصحيفة ثمنه بين 35 و55 ألف يورو. وترى أن اختيار الثوب باهظ الثمن وتغيير اسم العروس الديني من فاطمة إلى ساتايش لا يتناسب مع معايير النظام الدينية.
يرى الموقغ الأذري أن نشر مقاطع فيديو من زفاف ابنة شامخاني أواخر الشهر المنصرم، كان له وقع القنبلة الصوتية في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الإجتماعي، وسرعان ما أصبح مادة نقاش على الصعيد العالمي، متخطياً حدود إيران.
موقع الخدمة الروسية في BBC نشر في 16 أيلول/ سبمتبمر المنصرم، يوم حلول السنوية الثالثة لاستشهاد مهسا أميني، وعنونه بالقول "ثلاث سنوات مرت على الاحتجاجات في إيران. ما الذي تغير منذ ذلك الحين، وهل أصبح لدى النساء حقوق أكثر".
يستهل الموقع نصه باستعادة وقائع استشهاد مهسا أميني، ثم يقول بأن موتها أثار احتجاجات عنيفة أصبحت تعرف لاحقاً بـِ "حركة مهسا" أو "المرأة والحياة والحرية". وكانت شعارات التحرك تتراوح بين المطالبة بالعدالة بما يتعلق بموت مهسا، والمطالبة بالحرية وإسقاط النظام الإسلامي ومحاكمة المسؤولين عن القمع خلال عشرات السنين.
ويضيف الموقع بأن إيران شهدت منذ ذلك الحين تغييرات لم تكن لتتوقعها السلطات. فخلال هذه السنوات الثلاث أخذت النساء، حتى في أقاصى البلاد، تتحدى علناً إلزامية اللباس الشرعي.
طرحت "المدن" على صحافية روسية مستقلة متابعة للشأن الإيراني، وعلى مستشرقة روسية من أصول إيرانية عدة اسئلة حول ممارسة الإيرانيات على نطاق واسع لحرية اختيار مظهرهن في الفضاء العام، وموقف النظام من هذه الحريات.
الصحافية المستقلة والمتابعة النشيطة للشأن الإيراني يوليا يوزيك، وفي ردها على السؤال عن تأثير "حركة مهسا أميني" ونتائج حرب الإثني عشر يوماً على غض النظام الطرف عن سلوك الإيرانيات في الفترة الأخيرة. قالت يوزيك إن العاملين تركا معاً تأثيرهما على غض النظام الطرف عن حقيقة أن المزيد والمزيد من الفتيات والنساء لا يرتدين الحجاب، أو يرتدينه شكلياً، وفي حالات الحاجة والمواجهة مع رجال الأمن، ومن ثم ينزعنه بعد ذلك.
وهل يعني اضطرار النظام لغض الطرف بداية إصلاحات جذرية في داخل نظام الملالي، قالت الصحافية بأنها تفضل أن تكون حذرة في الحديث عن إصلاحات جذرية؛ إذ أن قانون إلزامية الحجاب لم يلغ بعد. لكن جناحي النظام يدركان هشاشة الوضع الاقتصادي والاجتماعي، واحتمال انفجار الاحتجاجات والانتفاضات الاجتماعية، لذلك يغضان الطرف حالياً. لكن في حال عودة الصقور إلى السلطة، فستعود بسرعة شديدة التدابير القمعية ضد من يخالف نظام ارتداء الحجاب.
المستشرقة الروسية من أصول إيرانية لانا فدايى راوندي قالت لـِ "المدن" إن المادة 638 من قانون إلزامية الحجاب التي تحدد العقوبات لدى مخالفة القانون من قبل المرأة، هي بيت القصيد، وليس قانون إلزام الحجاب. والمادة هذه لا أحد ينوي إلغاءها. وكل ما في الأمر أن ضغط الشرطة قد تراجع على النساء من دون حجاب في المدن الكبرى. ولم يعد الكثيرون من رجال الشرطة يعترضون المرأة من دون حجاب في الشارع.
وترى المستشرقة أنه يمكن الحديث ليس عن إلغاء قانون إلزامية الحجاب؛ بل عن رفض إقرار قانون أكثر تشدداً. وتعيد السبب إلى انتخاب رئيس ليبرالي منح المجتمع المزيد من الحرية. كما ترى أن حرب الاثني عشر يوماً قد تركت تأثيرها أيضاً؛ إذ إن النظام الإسلامي يريد الدعم ليس من المحافظين فقط، بل ومن شرائح المجتمع العلمانية أيضاً.
