مؤتمر الأقليات في تل أبيب: الوجه الجديد للمشروع الإسرائيلي

أحمد مولود الطيّارالخميس 2025/10/30
مؤتمر تل أبيب (الإنترنت)
مواجهة الطموحات الإسرائيلية بإعادة تعريف الوطنية على أسس عادلة
حجم الخط
مشاركة عبر

لم يكن مؤتمر "الأقليات في الشرق الأوسط" الذي انعقد في تل أبيب بتاريخ 28/10/ 2025 تحت هدف " تعزيز الحوار والتعاون بين الأقليات في المنطقة وبين إسرائيل، في ظل التحديات الأمنية والسياسية التي تواجهها هذه المجموعات في أوطانها الأصلية" حدثاً عابراً أو ذا طابع أكاديمي صرف كما حاول المنظمون تصويره. فخلف الشعارات المكررة عن "التعايش" و"حماية المكونات الدينية والإثنية" كانت هناك رسالة سياسية واضحة تشير إلى تحوّل نوعي في طريقة تفكير النخبة اليمينية الإسرائيلية: لم تعد إسرائيل تكتفي بخطاب القوة العسكرية والردع، بل باتت تسعى إلى إعادة تشكيل المجال الإقليمي من الداخل، عبر تفكيك البنى الوطنية في الدول المجاورة، وإعادة تركيبها وفق مصالحها الأمنية والاقتصادية.
من يتأمل المسار التاريخي يدرك أن ما جرى في تل أبيب ليس إلا استكمالاً عملياً لرؤية شيمون بيريز القديمة في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" الصادر عام 1993. يومها؛ طرح بيريز حلمه الوردي عن منطقة تتجاوز الحروب، وتتحول إلى فضاء اقتصادي متكامل تقوده التكنولوجيا والتعاون الإقليمي. كانت إسرائيل - في تلك الرؤية - المركز المعرفي والعلمي الذي يتعلم منه الآخرون، ويغدو محركاً للتنمية والسلام. لكن الزمن أثبت أن تلك اللغة الناعمة كانت غلافاً لفكرة أعمق، وهي: تثبيت تفوق إسرائيل الهيكلي في المنطقة، وتحويل جيرانها إلى محيط تابع اقتصادياً وسياسياً.


اليمين الإسرائيلي اليوم يستعيد جوهر هذه الرؤية، لكنه ينزع عنها القناع المثالي. فالسلام الاقتصادي الذي تحدث عنه بيريز أصبح في الخطاب اليميني المعاصر "سلاماً هرمياً"، يقوم على تفاوت القوة لا على المساواة. المنطقة، كما يتصورها صانع القرار في تل أبيب، يجب أن تعاد هندستها بحيث تتكون من دول ضعيفة، متنازعة طائفياً، مفتوحة اقتصادياً، ومتصالحة مع تفوق إسرائيل التي تقدم نفسها نموذجاً في "الحداثة" والحكم المستقر. فيحاول الإسرائيليون إعادة تسويق مقولة "الشرق الأوسط الجديد" نفسها، ولكن بوجه أكثر صراحة. ففي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام، أعلن بنيامين نتنياهو أن بلاده تقترب من توقيع اتفاقية سلام مع السعودية، معتبراً أن الاتفاقات الإبراهيمية مثّلت "نقطة تحول تاريخية"، وأن إسرائيل باتت تتقاسم مع دول عربية بعينها العديد من المصالح، وهو ما سيخلق – على حد قوله – شرق أوسط جديد.
هذا التصريح ليس مجرد إعلان دبلوماسي، بل هو تأكيد على أن فكرة بيريز القديمة ما تزال تشكل الوعي الإستراتيجي الإسرائيلي، وإنْ جرى تحديثها لتتناسب مع التحالفات الجديدة، ومع منطق القوة الذي يحكم المنطقة اليوم في عصر يقوده ترامب – نتنياهو.


في هذا السياق، يمكن اعتبار أن مؤتمر الأقليات خطوة تجريبية في محاولة لترجمة تلك الفكرة إلى واقع سياسي ملموس. فالمشاركون الذين حضروا من خلفيات درزية وعلوية وإيزيدية ومسيحية وكردية وسريانية، بعضهم من سوريا، جرى تقديمهم بوصفهم ممثلين لصوت المكونات المهمشة في المنطقة. لكن القراءة الدقيقة تُظهر أن الهدف الحقيقي هو صناعة "شبكات تمثيل بديلة" يمكن توظيفها لاحقاً في أي ترتيبات سياسية أو أمنية تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط. إنه مشروع "لتوليد طبقة من النخب المحلية تخاطب إسرائيل مباشرة، وتتجاوز الدول المركزية وحدودها التقليدية".
ما يميز هذه الإستراتيجية هو توظيف خطاب "حماية الأقليات" كغطاء أخلاقي. فإسرائيل تسعى إلى إعادة تعريف نفسها في الوعي الإقليمي من دولة احتلال إلى دولة حامية. فهي - بحسب هذا الخطاب - "الملاذ الآمن للأقليات المهددة من محيط عربي إسلامي متعصب". 

الساحة السورية تمثل النموذج الأمثل لتطبيق هذه العقيدة الجديدة. فبعد أكثر من عقد ونصف عقد على الحرب التي أرهقت المجتمع والدولة؛ تعمل إسرائيل على استثمار هشاشة بلد مثقوب الهوية، متعدد الانقسامات، وقابل للاختراق عبر أدوات غير عسكرية. لذلك؛ لم يكن من قبيل الصدفة أن يُستدعى إلى مؤتمر تل أبيب ممثلون عن أقليات سورية تحديداً، أو أن تُطرح عبارات مثل "الحقوق الفيدرالية" و"الإدارة الذاتية" و"التنوع الثقافي" و "حق تقرير المصير" في سياق يتقاطع بوضوح مع مشاريع اثارة الفتن والفوضى.


إن ما يريده اليمين الإسرائيلي ليس إعادة احتلال الأراضي السورية أو السيطرة المباشرة عليها، بل تحويلها إلى فضاء متشظٍّ من الكيانات الصغيرة المرتبطة اقتصادياً مع إسرائيل. هكذا تتحقق السيطرة من دون عبء الاحتلال. فإسرائيل تصدّر الكهرباء والماء والاتصالات والخبرة التقنية، بينما تعتمد تلك الكيانات عليها في شؤون حياتها اليومية. إنها علاقة تبعية كاملة تُقدّم بعبارات التعاون والتكامل.
والمكاسب التي تطمح إسرائيل إلى تحقيقها تتلخص في ثلاث نقاط، أولها: تحييد جبهتها الشمالية عبر ربط المجتمعات الحدودية بعلاقات تعاون أمني واقتصادي مباشرة معها. ثانياً: خلق واقع جديد يجعل من التطبيع أمراً طبيعياً داخل النسيج الاجتماعي، لا قراراً فوقياً للحكومات. وثالثاً: خفض كلفة السيطرة عبر توكيل حلفاء محليين بمهام الحماية والمراقبة. في المقابل، تمنح تلك الجماعات مكاسب رمزية واقتصادية.
لكن هذا المشروع لا يخلو من ثغرات. فالمؤتمر - رغم الضجة الإعلامية التي رافقته - عكس محدودية التمثيل وضعف التأثير الفعلي للحاضرين. كثير من المجتمعات التي تم التحدث باسمها ترفض هذه المقاربة، وتراها استغلالاً لقضاياها. كما أن القوى الإقليمية الكبرى لن تسمح بقيام خرائط جديدة تهدد توازناتها. إضافة إلى ذلك، يبقى الوعي السوري وداخل الأقليات نفسها - رغم تشظيه - حساساً تجاه كل ما يأتي من بوابة إسرائيل، وهو ما يجعل "التفتيت الناعم" عملية محفوفة بالمخاطر.


من هنا، يمكن القول بأن المسؤولية الأكبر تقع اليوم على عاتق نظام الحكم الجديد في دمشق بقيادة الرئيس المؤقت أحمد الشرع، الذي بات مُطالباً بخطوات سريعة وحاسمة لبناء عقد اجتماعي جديد ينهي إرث التمييز والاحتكار، ويؤسس لمرحلة من المواطنة المتساوية والتمثيل العادل لجميع المكونات الدينية والقومية في سوريا. وهذا يتطلب إعادة النظر في كل الخطوات التأسيسية التي قام بها أحمد الشرع منذ توليه الحكم، كالإعلان الدستوري، والمؤتمر الوطني، وآليات توزيع السلطات، وصياغة السياسات الانتقالية، بما يضمن مشاركة حقيقية لكل المكونات، ويمنع إعادة إنتاج المركزية القديمة بشكل جديد. فحين يشعر كل المواطنين - بعيداً عن طوائفهم أو إثنيّاتهم – أنهم يُعاملون على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، فلن يبحثوا عن حماية من الخارج، ولن يجدوا في الانقسام أو الارتهان ملاذاً.

 

ما تفعله إسرائيل اليوم ليس مجرد مبادرة دبلوماسية، بل محاولة لتغيير قواعد اللعبة في المنطقة. فهي تدرك أن زمن الاحتلال الكلاسيكي انتهى، وأن النفوذ الحقيقي في القرن الحادي والعشرين يُبنى عبر السيطرة على شبكات المعرفة والاقتصاد والإعلام، وعبر إعادة تشكيل الخريطة النفسية الهويّاتية لشعوب المنطقة. وما مؤتمر تل أبيب للأقليات سوى وجهاً من وجوه هذه الإستراتيجية المتكاملة التي تستبدل القوة الصلبة بالقوة الرمزية، والسلاح بالمصالح، والحدود بالشبكات.
الشرق الأوسط الجديد الذي أراده بيريز قبل ثلاثة عقود؛ كان يبدو حينها حلماً طوباوياً. أما اليوم، فإن اليمين الإسرائيلي يسعى إلى تحقيقه فعلياً، ولكن بشروط مقلوبة: "ليس شرقاً مسالماً متكافئاً، بل شرقاً مفككاً تعلوه إسرائيل من دون حرب".
إن خطر هذه الرؤية لا يكمن في قدرتها العسكرية، بل في قدرتها على إقناع بعض أبناء المنطقة بأن خلاصهم يمر عبر بوابة تل أبيب. ومواجهة هذا الخطر تبدأ من الداخل، أي من إعادة تعريف الوطنية على أسس عادلة، ومن الاعتراف بالتنوع من دون الارتهان للخارج. ووحدها الدول التي تنجح في تحويل اختلافاتها إلى قوة داخلية، لا إلى شروخ خارجية؛ تستطيع أن تقف في وجه "الشرق الأوسط الجديد" الذي يُراد لها أن تكون فيه أطرافاً هامشية في نظام تتوسطه إسرائيل وتتحكم بخيوطه.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث