العنف الطائفي يضرب مرة أخرى في واحدة من قرى محافظة المنيا الواقعة في صعيد مصر. وكالعادة تكون شرارته صراع على ملكية الفضاء العام أو أجساد النساء. هذه المرة وفي قرية نزلة الجلف، كانت واقعة بين شاب قبطي وفتاة مسلمة كفيلة بإشعال الاعتداءات على مسيحيي القرية. فمثل كل سوابق العنف الطائفي يسقط عن المتهم صفته الفردية، وتتحمل الطائفة بأكملها الذنب الشخصي لواحد من منتسبيها. وذلك كما بالضبط ما تكون الضحية -وهي في العادة امرأة- ملك لجماعتها، فتكون مهمة الثائر على كاهل الجماعة كلها. العنف الطائفي الذي كان متوطناً في خط يمتد من بني سويف إلى قنا، وبالأخص في محافظتي أسيوط وسوهاج، انحسرت رقعته لتصبح محافظة المنيا ساحته الأثيرة. نسبة الأقباط العالية في ريف المحافظة، بالإضافة إلى كونها ثالث أفقر المحافظات في الجمهورية، قد تكون من أسباب تجذر الطائفية هناك.
وعلى خلاف اضطرابات مماثلة من الماضي، لم يسقط قتلى في الأحداث. ولعل عدم خروج الاضطرابات عن السيطرة إلى حد إراقة الدماء هذه المرة، وتراجع وتيرة العنف الطائفي وحدته في مصر بالعموم، قد يكون راجعاً إلى القبضة الحديدية للأمن، وكذا إلى الإشارات الدافئة التي تداوم السلطة على التلويح بها تجاه الأقباط منذ الثلاثين من يونيو، ومن بينها حرص الرئيس السيسي على حضور قداس عيد الميلاد بنفسه في الكاتدرائية كل عام، وإلقاء كلمه من منبرها، وهو ما صار عرفاً رئاسياً مستحدثاً.
إلا أن ذلك كله لا يعني انحساراً للطائفية، بل على العكس، قد تكون دلالته الأوضح هو بقرطة عنفها. فواقعة "نزلة الجلف" حسمت عبر جلسات للتحكيم العرفي، أي بحضور عدد من المحكمين العرفيين بصحبة قيادات الأمن بالمحافظة. وبناء على القرار العرفي، أُرغم الشاب القبطي على مغادرة القرية وحكم على أسرته بالتهجير منها خلال خمسة أعوام، وتعويض قيمته مليون جنية. اللافت أن المسار العرفي لم يحل بديلاً عن المسار القضائي، بل جاء بالتوازي معه، فأهل الفتاة مستمرين في إجراءات التقاضي أمام المحاكم. والحال أننا أمام نموذج لإدارة الطائفية لا تكون فيه صفة العرفي نقيضاً للرسمي أو الدولاتي، بل مرادفاً لها، فحضور قيادات الأمن للجلسات العرفية يمنحها صفة الرسمية بالضرورة، وإن ظلت تلك الرسمية منقوصة.
السؤال الواجب هو، إن كان المسار القضائي ممكناً فلما لا يتم الاكتفاء به؟ ومقلوب هذا السؤال جدير بالطرح أيضاً، أي إن كان المسار العرفي كفيلاً بتهدئة الأمور فلماذا لا تقف الأمور عنده؟ يبدو المسار المزدوج للحكم هنا عقوبة مضاعفة على الأقلية، واعتبار منتسبيها تحت وصاية مؤسسات الدولة والقانون، وفي الوقت نفسه دونهما، أي يطلب منهم أن يكونوا مواطنين كاملي الأهلية، وبالتوازي يحرمون من حقوق تلك المواطنة الكاملة.
البيروقراطية العرفية تستطيع أن تتعامل مع قضايا لا تقع في نطاق ولاية المحاكم، فمعظم أعمال العنف الطائفي تتعلق ببناء الكنائس أو علاقات غرامية عابرة للخطوط الطائفية، وهي ليست بجرائم أو مخالفات قانونية في حد ذاتها معظم الأحيان. وعلاوة على ذلك، يتيح العرف عقوبات جماعية على ذنب فردي، وعقوبات خارج إطار المدونة القانونية، بل وأحياناً ما تكون عقوبات غير قانونية، بمعنى إنها ضد القانون، وفي حالتنا هنا هي نفي الشاب والتهجير القسري لأسرته.
بلا شك، نجحت السلطة الحالية في خفض وتيرة العنف الأهلي ذي الطبيعة الطائفية، إلا أن ذلك قد حدث مع توسع الأجهزة الأمنية في استخدام الأدوات العرفية لتجذير الطائفية، وخلق نظام استثنائي للعقوبات المزدوجة ضد الأقلية. في المساحات الملتبسة لتقاطعات العرفي والرسمي، والقانوني وغير القانوني، تمارس الأجهزة الأمنية سلطتها بمساحة مناورة فضفاضة وبانتقائية متعمدة، وبذلك تضمن إجبار الأقباط على الانضواء تحت جناح السلطة بشكل دائم، ومن جانب الآخر تمنح الأغلبية المقموعة فرصتها لتفريغ طاقات الحنق وإعادة توجيهها بعيداً عن السلطة.
