سوريا: إعادة كتابة التاريخ بدلاً من صناعته

عمر قدورالثلاثاء 2025/10/28
سقوط بشار الأسد (Getty)
لحظة الثورة، كانت لحظةَ وعدٍ بكتابة تاريخ جديد
حجم الخط
مشاركة عبر

بعد إلغاء عطلة عيد الشهداء، أتى الدور على كتاب التاريخ ضمن المنهاج المدرسي، ليوصَف شهداء السادس من أيار الذين أعدمهم جمال باشا في ساحة المرجة عام 1916 بـ"المتآمرين مع الإنكليز والفرنسيين". يُذكَر أن حرب تشرين 1973 أزيلت ذكراها أيضاً من قائمة العطلات الرسمية، والتبريرات التي سيقت نصّت على أن حافظ الأسد خاض الحرب لأغراض سلطوية، وهو ما يُقال عن أنور السادات أيضاً، إلا أن هذه التبريرات تُسقط من حسبانها مئات الآلاف من السوريين والمصريين، ومن مقاتلي جيوش عرب أتوا لاحقاً للدعم، وهؤلاء لم يكن لديهم حسابات سياسية فردية، بل اندفعوا إلى القتال بإخلاص. الحديث هو عن آباء وأجداد من المشين الانتقاص من وطنيتهم، أو تجاهلهم، حتى إذا أُلغيت العطلة.

شيء مشابه حدث مع تغيير أسماء المدارس، وسيحدث مع تغيير أسماء الشوارع، وسوى ذلك من موجة التغيير التي حدثت وستحدث تحت يافطة التخلّص من الإرث الأسدي. ولا يُستبعد في غضون ذلك أن يكون تغييرٌ ما مادةً للسجال ضمن الانقسام السوري، وهو انقسام يتجه إلى الاستقرار مستعيداً ملامح انقسام 2011، لكن باصطفافات مختلفة.

 

منذ إسقاط الأسد ظهر ميلٌ جارف لمحو آثار حقبة العائلة بأكملها. ولا مغامرة بالقول إن هذا الميل يشوبه الكثير من الأمّيّة، فيما يخص الخلط بين آثار الأسدية والتاريخ السوري في الفترة ذاتها. وأيضاً يشوبه الكثير من الأمية فيما يخص الخلط بين فترة الأسد والبعث وما قبلهما. هكذا صار مُباحاً الانقضاضُ على التاريخ بأكمله بذريعة التخلص من الإرث الأسدي، بينما تنجو الأسدية ما دام هناك بدلاء يكررون ما كانت تفعل.

يُنقَل عن حافظ الأسد أنه كان محبّاً لقراءة التاريخ والتحدث عنه، في حين كانت ماكينته الإعلامية تروّج له بوصفه "باني سوريا الحديثة". ولا أدلّ على "سوريا الحديثة" التي بناها من الخراب الذي آلت إليه، لكنه في المقابل سعى إلى كتابة تاريخ حكمه كما يشتهي، وقام بعملية طمس واسعة النطاق لتاريخ سوريا قبل انقلابه. ويمكن الحديث عن مستويات متعددة لإعادة كتابة التاريخ في عهد الأسد، منها مثلاً المستوى المتعلّق بالفكر العروبي، وظهرت آثاره في تعريب أسماء قرى وبلدات من أصل كردي، وإن طاولت أحياناً أسماء أخرى من أصول سريانية وآشورية.

 

التغييرات في المناهج المدرسية مثلاً لم تحدث مباشرة بعد انقلاب الأسد، وهناك أجيال في السبعينات درست التاريخ تحت عناوين من قبيل "الفتح العثماني" و"فتوحات الاسكندر"... حيث لم تكن كلمة "الفتح" مسيَّسة كما سيحدث فيما بعد، وكانت تؤخذ كمفردة خاصة بالعهد الإمبراطوري مثلما كلمة الاستعمار مرادفة للاحتلال في الحقبة الرأسمالية. الأسوأ والأخطر أتى بإدخال مناهج التربية القومية، والتي اختُزلت عملياً بشخص وأقوال الأسد، وهذه لا خلاف على إزالتها فوراً من المناهج الدراسية بمختلف فئاتها.

كان لدى الأسد متسع من الوقت لصناعة التاريخ، لكنه كان أقلّ من الفرصة التي أتيحت له، فانشغل بإعادة كتابة التاريخ، وبالإنشاء اللغوي الذي صنع تاريخه الخاص. كان الأسد انقلابياً في حزب انقلابي أصلاً، وهذا تعبير مستمد من أدبيات الحزب. وبهذا المعنى كان إقصائياً لا استيعابياً. في السياق ذاته أتت إعادة كتابة التاريخ كعملية إقصائية، الغاية منها تغليب رواية مستحدثة على رواية قديمة، لا على شاكلة ما يحدث في الكثير من البلدان من إعادة قراءة للتاريخ بحيث تكون القراءة المعاصرة ديمقراطية، ومتصالحة مع ما يُرى سلبياً وإيجابياً فيه.

 

فضلاً عن الاعتباطية وعدم الانسجام، الخشية ماثلة من مساهمة جماعية تشجّع على إعادة كتابة التاريخ باستلهام الطريقة الأسدية نفسها، من الإقصاء والهيمنة، وأيضاً لجهة استباحة الماضي السوري وكأنه مُلْك لمن يحكم لا لعموم السوريين. وهذه العملية لا بد أن تنطوي على فقر معرفي ووجداني، وتكون مدفوعة أساساً بالرغبة في الاستيلاء على السلطة السابقة ومؤسساتها.

الأسوأ، المستمر، هو الانشغال بالماضي واصطناع حروب جديدة منه، بدلاً من صناعة التاريخ الذي يُفترض دائماً أن يُصنَع الآن، وعلى أرضية التطلُّع إلى الأمام لا إلى الوراء. السعي إلى الهيمنة على الماضي كان دائماً تورية عن الهيمنة على الحاضر، وضمن سياق التحكم به، لا صناعة حاضر مختلف وجديد. الذين عاشوا حقاً إرهاصات ولحظة الثورة يعرفون كيف كانت لحظةَ وعدٍ بكتابة تاريخ جديد، وهي لا تنتمي إلى الصنف المُشار إليه من إعادة كتابة التاريخ. وهذا واحد من الفوارق المهمة بين الثورة والانقلاب.

 

في الشق العثماني تحديداً، لا يصعب بعد أكثر من مئة سنة اعتبار تلك الحقبة تقادمت بحيث تحتمل بلا حساسية العديد من الآراء المتناقضة، فهناك في سوريا مجموعات دينية ومذهبية تضررت من الحكم العثماني، ومجموعات لم تكن متضررة، ولا يوجد صواب أو خطأ متّفق عليه بين الجميع. ولا يستحيل الاتفاق على أحقيّة تعدد وجهات النظر إزاء تلك الحقبة، واعتمادها جميعاً، لو وصل السوريون إلى حاضرٍ يتقبّلون فيه اختلافاتهم الحالية.

والمؤسف أن الأفكار التي كانت قد تضيء على زاوية ما، مثل تشكّل الوعي القومي ودور "الأقليات" فيه، راحت تُستخدم في إطار التسييس الضيّق الذي ينتهي إلى القول بوجود مؤامرة أقلوية على الأكثرية السنية من باب معاداة السلطنة العثمانية ذات المذهب الرسمي السني. والواقعة نفسها تحتمل النظر إليها من زاوية أن العروبة هي الرابطة الأوسع بين المذاهب والأديان الموجود في بلاد الشام، بخلاف الرابطة السنية التي تفرّق بينهم، ما يضع "المؤامرة الأقلوية" المزعومة في سياق مغاير تماماً. وذلك كله إذا استُثني الأكراد، الذين لم يكونوا فاعلين سياسياً في تلك الفترة، واستثناؤهم آنذاك مختلف عن استثنائهم حالياً من لائحة أيام العطل الرسمية، فحضر عيد الأم وغاب عيد النوروز الذي يصادف في اليوم نفسه، علماً بأن حافظ الأسد هو الذي قرر عطلة عيد الأم. وهي مناسبة يُحتَفل بها في الكثير من البلدان من دون اعتبارها عطلة رسمية.   

 

الأمر لا يختص فقط بإعادة كتابة التاريخ على صعيد العطلات الرسمية والكتب المدرسية، بل يشي بمستوى تدخّل السلطة وهيمنتها على الفضاء العام بوصفها طرفاً. وفي مرحلة انتقالية كالتي يُفترض أنها موجودة حالياً لا أولوية لقضايا تاريخية مثل أولوية الراهن الذي يتطلب تصفية إرث الأسدية بعدالة انتقالية موثوقة، وتصفية إرثها المادي والمعنوي على صعيد الاستبداد. أما الانتماء الحقيقي إلى مُثُل الثورة فيبدأ بكتابة تاريخ جديد، يمكن على ضوئه لاحقاً إعادة قراءة القديم ونقده بكل أنواع النقد، بما في ذلك عديم الرأفة.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث