الحرية المؤجّلة

سلام الكواكبيالاثنين 2025/10/27
سجن سوريا (Getty)
الخوف هو المدرسة الأولى للاستبداد (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

ما بين الخوف والاعتياد والمصلحة، عاش السوريون نصف قرن في ظل أسرةٍ جعلت من الاستبداد نظامًا للحياة. واليوم، وهم يزعمون الانتقال إلى الحرية، يحمل كثيرون معهم منطق الاستبداد ذاته: يبرّرون القهر، ويخشون التعدد، ويغلقون الأبواب باسم الوطن أو الدين.

 

في تاريخ الشعوب، هناك لحظة يتحوّل فيها التمرّد إلى نوعٍ من الاستسلام الأنيق، وتغدو الطاعة شكلاً من الواقعية السياسية. تلك اللحظة تقتل روح المجتمع قبل أن تقتل جسده، لأن الخضوع لا يورّث فقط نظامًا فاسدًا، بل ذهنية ترى في القهر ضرورة للحياة.

الخوف هو المدرسة الأولى للاستبداد. يبدأ في البيت حين يُمنع الطفل من السؤال، ويكبر في المدرسة التي تعلّم الصمت، ثم يكتمل في الدولة التي تقدّس الزعيم وتجرّم التفكير. في سوريا، تمكّن النظام خلال نصف قرن من تحويل الخوف إلى سلوك يومي. صار المواطن يعرف بالفطرة ما يُقال وما يُسكت عنه. حتى الجسد نفسه صار أداة رقابة؛ العين لا تجرؤ على النظر، واللسان يتلعثم قبل أن ينطق.

ولأن الخوف يولّد الحذر، تشكّلت طبقة اجتماعية كاملة تدير حياتها على قاعدة "دع الأمور تمشي". ومع الوقت، تحوّل هذا الموقف الدفاعي إلى بنيةٍ ثقافية تورَّث كما تُورَّث اللغة. حين يقول أحدهم "ما لنا بالدولة"، فهو لا يقولها استخفافًا بالسياسة، بل يعبّر بصدق عن قناعة عميقة بأن الدولة كائن غريب لا يمكن الاقتراب منه أو تغييره.

 

الاستبداد لا يحتاج إلى السجون بقدر ما يحتاج إلى الزمن. الزمن وحده كفيل بتحويل القهر إلى عادة. حين تتكرر الإهانة بما يكفي، تفقد الإهانة معناها. هذا ما حدث في سوريا، حيث صار الاستبداد هو "الطبيعي"، وكل ما عداه "خطر" أو "مؤامرة". من المناهج الدراسية إلى الإعلام الرسمي، ومن الأغاني الوطنية إلى الخطب الدينية، بُني وعيٌ عامّ يرى في الزعيم أبًا حاميًا، وفي الوطن مزرعةً للعائلة الحاكمة. ومع توارث هذا الوعي جيلًا بعد جيل، لم تعد المشكلة في الحاكم وحده، بل في المجتمع الذي يرى في العبودية نظامًا طبيعيًا للحياة.

وإلى جانب الخوف والعادة، هناك المصلحة. فلكل حاكمٍ حاشيته من المنتفعين الذين يرون في الطاعة وسيلةً للترقي. هؤلاء ليسوا مجرّد أتباع، بل أدوات رسمية في ترويض الآخرين. يبرّرون القمع باسم "الأمن"، والفساد باسم "الواقعية"، والخضوع باسم "الحكمة". فالاستبداد لا يعيش على القهر وحده، بل على القابلية له، وهي القابلية التي تغذّيها المصالح الصغيرة التي تجعل من الصعب على الناس تخيّل حياةٍ خارج دائرة السلطة.

 

استطاع النظام السوري، مثل كثير من الأنظمة العربية، أن يلبس سلطته لبوس العقيدة. مرّة باسم المقاومة، ومرّة باسم حماية الأقليات أو الدفاع عن القومية. بذلك نقل الولاء من السياسة إلى الإيمان، فصار نقد السلطة خيانة لا موقفًا. تحوّل الولاء السياسي إلى شعور ديني أو قومي متشنّج، يرضي عطش الناس إلى الانتماء، لكنه يقتل فيهم حسّ المواطنة. بات الدفاع عن النظام دفاعًا عن "الهوية"، حتى لو كانت مصطنعة، وصارت الحرية تُرى كتهديد لا كخلاص.

اليوم، ومع ما يُسمّى "الانتقال السياسي" في سوريا، يظن البعض أن صفحة الاستبداد قد طُويت، بينما الحقيقة أن كثيرًا من ملامحه انتقلت إلى المعارضة أو إلى المجتمع نفسه. فالنظام الذي حكم بالحديد والنار علّم الناس أن القوة هي الشرعية الوحيدة، وأن الرأي المختلف خطر، وأن "الوحدة" لا تعني التعدد، بل الإذعان. ولهذا نرى كثيرين ممّن ادّعوا التحرّر من الأسد يتصرّفون بمنطقه نفسه: يبرّرون الأخطاء لأنها "ضرورات"، ويتسامحون مع الانتهاكات لأن "المرحلة تقتضي ذلك"، ويتقوقعون في هويات طائفية أو عشائرية كأنهم لم يتعلّموا شيئًا من الكارثة.

 

هذا الارتداد إلى العصبيات ما قبل الوطنية -الدينية أو الإثنية أو المناطقية- هو النتيجة الطبيعية لعقودٍ من الاستبداد التي دمّرت فكرة الوطن الجامع. حين ينهار الخوف الكبير، تظهر المخاوف الصغيرة، ويبحث كل طرف عن خلاصه الخاص داخل قبيلته أو مذهبه. وهكذا يُعاد إنتاج السجن القديم بأسماء جديدة. والمفارقة أن كثيرين باتوا اليوم يدافعون عن أخطاء "التحرير" كما دافعوا سابقًا عن "الاستقرار" تحت الأسد. يرفضون النقد، يصمتون أمام الخطأ، ويبرّرون التضييق باسم "الثورة" أو "الهوية القومية" أو "الخصوصية الثقافية". كأنهم لم يخرجوا من دائرة الطاعة، بل نقلوها إلى معسكر آخر.

بهذا المعنى، لم يتحقّق في سوريا انتقالٌ حقيقي، بل انتقال في الشكل: من سلطةٍ مركزية واحدة إلى سلطاتٍ متعدّدة تتشابه في الجوهر وإن اختلفت في الراية. جميعها تشترك في سمةٍ واحدة: الخوف من الحرية. فالحرية تفضح الجميع، وتلزمهم بالمساءلة. والتحرّر لا يكون بإسقاط المستبد فحسب، بل بإسقاط المستبد الكامن في داخل كل فرد؛ أن يتحرّر الإنسان من الخوف، ومن العادة، ومن المصلحة، ومن الهويات الضيقة التي تغريه بالتماهي مع جلاده الجديد.

 

الحرية ليست شعارًا سياسيًا، بل مجهود أخلاقي طويل النفس. من لم يتعلّم أن يقول "لا" في وجه عشيرته أو طائفته، لن يجرؤ على قولها في وجه الحاكم. أخطر ما يواجه سوريا اليوم ليس عودة الاستبداد القديم، بل استمرار منطقه في أذهان من يظنّون أنهم تخلّصوا منه. فالاستبداد لا يموت بغياب الأسد، بل بغياب الرغبة في أن يكون للأسد بديل على شاكلته.

من عاش طويلاً بلا إرادة في الحياة، لن يمت بحرية. لذلك تبقى المعركة السورية اليوم معركةً ضد تاريخٍ من الطاعة والتبرير والانغلاق. من يبرّر الظلم باسم الدين أو القومية أو الثورة، يمدّ في عمر الاستبداد وإن رفع شعار الحرية. ومن يرفض التعدد باسم الوحدة، يزرع بذور حربٍ جديدة تحت تراب السلام الزائف.

الحرية تمرينٌ شاق على الوعي، لا ينتصر فيه إلا من يقبل أن يدفع ثمنها بلا مزايدة. فالمجد لا يُبنى على الخوف، والكرامة لا تُستعاد بالانغلاق، والوطن لا يُقام بالعصبيات. وإن كان لنا من خيار، فليكن أن نعيش ونموت كما نشاء، لا كما يشاء الحكّام، مهما تبدّلوا.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث