وثيقة الإخوان المسلمين: تحول حقيقي أم إعادة تموضع؟

ميشال شمّاسالأربعاء 2025/10/22
مؤتمر صحافي لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا (Getty)
الوثيقة تُعد متقدمة بالمقارنة مع أدبيات الجماعة (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

في 18 تشرين الأول 2025، أصدرت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا وثيقة جديدة بعنوان "العيش المشترك"، تُعد من أبرز محاولات الإسلام السياسي السوري، لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع بعد عقود من الاستبداد والانقسام. الوثيقة، التي جاءت بلغة مدنية جامعة، تسعى إلى تقديم تصور لسوريا المستقبل، قائم على التعددية والمواطنة والسلم الأهلي. لكنها في الوقت ذاته، تثير أسئلة جوهرية حول مدى صدقية هذا التحول واستدامته وموقعه من التجربة التاريخية للجماعة.

 

من حيث الشكل والمضمون، تُظهر الوثيقة تطوراً ملحوظاً في الخطاب السياسي للجماعة. فهي تؤكد أن سوريا يجب أن تكون دولة ديمقراطية تعددية، تقوم على التداول السلمي للسلطة وسيادة القانون وفصل السلطات والمواطنة، مع رفض المحاكم الاستثنائية وإلغائها. كما تُقر بحق تشكيل الأحزاب السياسية والمشاركة السياسية الكاملة والحق في انتخابات حرة ونزيهة، ومبدأ تكافؤ الفرص بغض النظر عن الدين أو الجنس أو العرق. وتُجرّم خطاب الكراهية والتحريض على العنف، وتُعلي من كرامة الإنسان السوري، وتعترف بأهمية منظمات المجتمع المدني في بناء الهوية وتعزيز الحوار.

هذه البنود، في ظاهرها، تمثل تحولاً إيجابياً في أدبيات الجماعة، وتُقارب في لغتها طروحات الأحزاب المدنية. غير أن هذا التقدم الظاهري لا يُلغي الحاجة إلى تفكيك الوثيقة نقدياً والبحث في ما أغفلته، أو ما لم تُصرّح به أو ما يُخشى استخدامه تكتيكياً لا استراتيجياً.

 

أول ما يُلاحظ في الوثيقة هو غياب الإشارة الصريحة إلى استقلال السلطة القضائية. فرغم الحديث المتكرر عن العدالة، لا تُذكر أي ضمانات مؤسسية لحماية القضاء من التدخل السياسي أو الحزبي. وهذا الغياب يُضعف من قدرة الوثيقة على تقديم تصور متكامل لدولة القانون، ويُثير شكوكاً حول مدى جدية الالتزام بالفصل بين السلطات، خصوصاً في ظل تاريخ طويل من تسييس القضاء في سوريا.

ومن الثغرات المفاهيمية أيضاً غياب حرية التفكير كمبدأ تأسيسي. فرغم الحديث عن حرية الاعتقاد والإعلام، لا تُذكر حرية التفكير، ولا يُوضح ما إذا كان المواطن السوري يملك الحق في مراجعة الموروث، أو نقد المرجعيات، أو تبني رؤى غير سائدة. وهذا الغياب يُضعف من البنية الفلسفية للوثيقة، ويجعلها أقرب إلى إعلان نوايا أخلاقية منها إلى تصور دستوري يضمن حرية الرأي والتعبير.

أما من حيث البنية السياسية، فإن الوثيقة لا تُوضح ما إذا كانت موجهة للمرحلة الانتقالية، أو لما بعدها. ولا تقترح فيها آلية للتبني أو التفاعل، ولا تعرضها كمسودة مفتوحة للحوار الوطني. وهذا الغموض الزمني يُضعف من قدرتها على التأثير الفعلي، ويجعلها أقرب إلى بيان تنظيمي منها إلى وثيقة تأسيسية.

 

لكن التحفظات لا تقتصر على ما غاب عن الوثيقة، بل تمتد إلى ما يُخشى أن يكون تنازلاً تكتيكياً لا تحولاً استراتيجياً. فالتجربة التاريخية للجماعة، في سوريا وخارجها، تُظهر نمطاً متكرراً من الخطاب المعتدل خارج السلطة، إلى سلوك إقصائي عندما تستلم السلطة. هذا ما عبّر عنه أحد المعلقين على الوثيقة بقوله: "ما يُظهروه غير ما يُبطنوه. يغيرون جلودهم متى تقضي مصلحتهم ذلك، لكنهم لا يتغيرون". وهو رأي لا يُمكن تجاهله، خصوصاً في ظل غياب أي مراجعة نقدية داخل الوثيقة لتجارب الجماعة السابقة، أو تعهد واضح بعدم تكرار أخطاء الماضي.

ويُلاحظ أن الوثيقة تجاهلت دعوة أحمد موفق زيدان، مستشار الرئيس السوري للشؤون الإعلامية، التي وجّهها في آب الماضي إلى جماعة الإخوان المسلمين لحل نفسها طوعاً. تجاهل هذه الدعوة، رغم أن الوثيقة صدرت بعد نحو شهرين منها، يُفسَّر على أنه اختيار من الجماعة للاستمرار في المشهد السياسي، وتقديم رؤية وطنية بديلة، بدلاً من الانسحاب أو إعادة النظر في بنيتها التنظيمية.

كما أن الوثيقة لا تُشير إلى استقلال الجماعة السورية عن امتداداتها التنظيمية في مصر أو تركيا، ولا تُوضح موقفها من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين. وهذا الغياب يُثير شكوكاً حول مدى استقلال القرار السياسي للجماعة بوصفها جماعة سورية، ويُضعف من قدرتها على بناء ثقة وطنية حقيقية، في ظل تجارب سابقة أظهرت تداخلاً بين القرار المحلي والإقليمي.

 

ومن أبرز ما يُؤخذ على الوثيقة أنها تتحدث بإسهاب عن الاستبداد وانقسام المجتمع، لكنها تتجاهل تماماً دور الجماعة نفسها في تفتيت المعارضة خلال سنوات الثورة، وفي تغذية خطاب ديني إقصائي ساهم في تعميق فقدان الثقة بين المكونات السورية.

 لم تتحل الجماعة بالشجاعة اللازمة لإجراء مراجعة نقدية لمواقفها وأخطائها، ولا لتحديد مسؤوليتها في إنتاج حالة من الاستقطاب السياسي والديني، كانت من أسباب تعثر المشروع الوطني الجامع. هذا الغياب لا يُعد مجرد نقص في التوثيق، بل يُضعف من صدقية الوثيقة كمبادرة للمصالحة الوطنية، ويجعلها أقرب إلى إعادة تموضع سياسي منها إلى مراجعة تاريخية صادقة.

ورغم أن الوثيقة تتبنى خطاباً مدنياً في الظاهر، إلا أن بناء مفهوم "العيش المشترك" على أسس شرعية دينية يخص لوناً واحداً من الطيف الوطني، يثير تحفظاً منطقياً ومعقولاً. فالمجتمع السوري متعدد دينياً ومذهبياً وثقافياً، وأي تصور للتعايش يجب أن ينطلق من أرضية وطنية جامعة، لا من مرجعية فقهية خاصة، حتى لو كانت مؤطرة بلغة سلمية. هذا التأسيس الديني، وإن بدا تصالحياً، فإنه يُبقي الوثيقة ضمن أفق الجماعة لا أفق الدولة، ويُضعف من قدرتها على مخاطبة جميع السوريين على قدم المساواة.

 

ورغم هذه التحفظات، لا يمكن إنكار أن الوثيقة تُعد متقدمة بالمقارنة مع أدبيات الجماعة السابقة، وتفتح باباً للحوار حول مستقبل الإسلام السياسي في سوريا. لكن هذا الحوار لا يُمكن أن يُبنى على النوايا فقط، بل يحتاج إلى ضمانات مؤسسية، وتعهدات واضحة، وانخراط فعلي في الحياة السياسية الوطنية، ضمن أحزاب مدنية تتنافس ديمقراطياً، وتخضع للمساءلة الشعبية.

في المحصلة، وثيقة "العيش المشترك" تمثل خطوة ايجابية في خطاب الإسلام السياسي السوري، لكنها تبقى بحاجة إلى استكمال مؤسسي وتشريعي، يضمن ترجمة القيم والبنود التي طرحتها إلى واقع ملموس، ويعالج الثغرات البنيوية في تصور الدولة والمجتمع. وهي دعوة مفتوحة للحوار الوطني، لكنها لن تُقنع السوريين إلا إذا اقترنت بالفعل والمراجعة والانخراط الصادق في مشروع الدولة، بعيداً عن التنظيمات المغلقة أو الاصطفافات العقائدية.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث