من انتفاضة جيل زد المغربية إلى الاحتجاجات على تلوث مياه الشرب في البصرة الأسبوع الماضي إلى الإضراب العام في مدينة قابس التونسية أمس، يبدو وكأن جذوة الانتفاضات تتجدد تحت رماد هزيمة الربيع العربي الفائت. هذه المرة لا مطالبات بسقوط النظام، رومانسية المثال الديمقراطي تخفت، وذلك لصالح مطالب اقتصادية واجتماعية وبيئية. مطالب أحياناً ما تكون فضفاضة، إلى الحد التي تتحول معه الهبات الجماهيرية إلى مجرد تعبير عن النقمة على الوضع الحالي، أكثر منها حراكات مطالبية ذات مغذى، وفي أحيانا أخرى تنحصر الاحتجاجات في دوائر محلية ضيقة وبمطالب شديدة التحديد، لكن بصدى يتردد على نطاق وطني وربما عابر للحدود.
في قابس، انطلقت احتجاجات من النوع الثاني قبل أسبوعين، على خلفية حالات اختناق سببها التلوث الناجم عن المجمع الصناعي الكيماوي في المدينة، الواقعة في الشرق التونسي بين الواحة والبحر المتوسط. ومع تصاعد الغضب، وعدت الحكومة التونسية بالقيام بأعمال صيانة عاجلة للمجمع المتخصص في منتجات الفوسفات. وهو الوعد الذي لم يلبِ مطلب الأهالي بإغلاقه. وتصاعدت الاحتجاجات بدخول المدينة يوم أمس إلى إضراب شبه كامل، حظي بتضامن واسع على مستوى وطني. ولعل انتفاضة قابس تعيد اتحاد الشغل التونسي إلى الواجهة مرة أخرى، بعد تراجع طويل. كما أنها أيضاً تعد واحدة من أكبر الهبات الخضراء في منطقتنا العربية. ومع هذا، سيكون من المجحف اختزال ما يجري في قابس أو ما يشابهه في أماكن أخرى في المطالب البيئية وحدها. ثمة أبعاد أكثر تعقيداً لتلك الاحتجاجات. فالجدير بالذكر أن ثمة رابطاً شبه مباشر بين الهبات الأهلية في تونس وبين الفوسفات، وكانت واحدة من أشهر تلك الهبات هي انتفاضة الحوض المنجمي، والمعروفة أيضاً باسم إضراب قفصة في العام 2008، ولعل قمعها العنيف والدموي من قبل سلطات بن علي، كان واحد من الشرارات المبكرة لانطلاق الثورة التونسية بعدها بعامين.
بشكل مباشر ترتبط انتفاضة قابس الأخيرة وانتفاضات الفوسفات بالعموم، بموقع تونس في التقسيم العالمي للإنتاج. وهو ذلك الموقع الذي تعود جذوره إلى حقبة الاستعمار، ويمكن عنونته بـ"لعنة الفوسفات". تحت الحكم الفرنسي، صيغت البنية التحتية للبلاد لتخدم نموذجاً استخراجياً متمحوراً حول الفوسفات بين مركبات الأخرى. وبعد الاستقلال، ورثت الدولة الوطنية البنية ذاتها ومعها العديد من الاتفاقات الاحتكارية لصالح المستعمر القديم.
لاحقاً، ومع تخلص دول الشمال من الصناعات ذات الكلفة البيئية الخطرة والعالية، انتقلت بعض الصناعات شديدة التلوث إلى دول الجنوب. وعلى تلك الخلفية من إعادة تقسيم العمل في عالم ما بعد الاستعمار المباشر، تأسس المجمع الكيماوي في قابس نهاية ستينيات القرن الماضي، ليلحق بالاقتصاد الاستخراجي صناعات ذات كلفة بيئية عالية وتدميرية ومردود اقتصادي متواضع. وبذلك تدفع تونس كلفة خسارة مضاعفة، مرة بتصدير موادها الخام وشبه الخام بأسعار بخسة، في ظل نظام للتسعير يخدم دول الشمال، ومرة ثانية بتدمير البيئة المحلية والصحة العامة للسكان. وليس من المستغرب أن يكون موقع تونس في تلك المنظومة الاقتصادية العالمية غير العادلة، سبباً في اندلاع الاضطرابات المحلية بشكل دوري. إلى اليوم، ما زال الفوسفات يمثل 4 بالمئة من الناتج الإجمالي للبلاد وحوالى 15 بالمئة من الصادرات التونسية إلى الخارج. وبسبب تلك الاعتمادية العالية على صناعة واحدة، وفي ظل أزمة متفاقمة في توفر العملة الصعبة، تقاوم الحكومة التونسية بشدة الدعوات الأهلية لإغلاق مجمع قابس.
بقدر ما يظهر الإضراب الأخير شأناً شديد المحلية، بقدر ما نتيقن أكثر أن حلولاً جذرية للاحتجاجات المتجددة في المنطقة لن يكفيها هتافات تغيير النظام، بل لعلها تتطلب إعادة ترسيم لمنظومة تقسيم العمل العالمي بشكل أكثر عدالة.
