سبق لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا توضيحَ موقفها من السلطة الجديدة، باعتبار الجماعة تنطلق من موقع "الداعم الناصح الأمين"؛ هذا ما ورد مثلاً في بيان للجماعة بتاريخ السابع من آب الفائت، كان فحواه الرئيس كيفية التعامل مع المسألة الطائفية في سوريا. آنذاك، عقب البيان، طالب مقرَّبون من السلطة وأنصارٌ لها بأن تحلّ الجماعة نفسها، وأن ينضوي بعض أفرادها ضمن السلطة الجديدة. إلا أن الجماعة لم تبارح موقفها، بل قررت تعزيزه برؤية أوسع، وهو ما يُقرَأ في "وثيقة العيش المشترك في سورية-رؤية جماعة الإخوان المسلمين في سوريا"، الصادرة بتاريخ 18/10/2025.
لا يقترن إعلان الوثيقة بحدث ساخن، لكنه بالتأكيد معطوفٌ على المجازر التي حدثت في الساحل ثم في السويداء، وآثارها البليغة على صعيد العيش المشترك في سوريا. اليوم هناك أصوات صريحة تَجهر بعدم إيمانها بإمكانية التعايش بين السوريين، على الأقل ما بقيت السلطة الحالية في الحكم. وهناك أيضاً كثر من الذين يعتقدون أن السلطة، بقواها ونهجها المعروف، لن تُقدِم على خطوات دراماتيكية تزرع الثقة وتمهّد لمصالحة كبرى، وكثر يعتقدون أنها غير قادرة على ذلك، إذا كان البعض منها راغباً في فعله.
من هذه الزاوية تأتي وثيقة الإخوان لتقدِّم الإطار النظري، متعيّناً بمرجعية إسلامية واضحة، من أجل العيش المشترك، وإقامة التوازن بين المواطنة وحقوق الجماعات، مع إقامة نظام ديموقراطي تداولي. الجماعة لا تتحرّج من استخدام كلمة الديموقراطية، ولا تتحاشاها قدر المستطاع كما يفعل قادة السلطة، وهذا ليس الدرس الوحيد الذي تقدّمه الوثيقة، فهي تستعرض "الأسس الشرعية للعيش المشترك"، بدءاً من "احترام الآخر والاعتراف به"، مروراً بوجوب ألا تتأثر أخلاق التعامل بالاختلاف الديني، وبأن العدالة والتعاون هما معيار الحقوق والواجبات في التعامل بين المختلفين، وصولاً إلى كون التعاقد هو الركن الأساسي في بناء الدولة.
بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الإخوان، أو مع ما ورد في وثيقتهم، فهُم يقدّمون وثيقة متكاملة، يجوز على الأقل اعتبارها نواة لرؤية سياسية أوسع. على أرضية الوثيقة يمكن الدخول في نقاش مع الجماعة، والاتفاق أو الاختلاف معها في هذا البند أو ذاك. أما في المغزى المباشر فلا مغامرة في القول إن الوثيقة تمدّ سُلّماً عقائدياً للسلطة كي تصعد من البئر الذي سقطت فيه، خصوصاً في آذار وتموز الماضيين.
بتعبير رمزي، تظهر الجماعة كأب ذي خبرة وحنكة، ينصح ابنه الضال. ولا مغامرة تالياً في الظنّ أن الابن الضال لن يكترث بنصائح الأب، لا من موقع الضلال، وإنما من موقع وعي السلطة لما تفعل، ولو جزئياً. ومن المستحسن الانتباه والتفكير في أنها لا تملك مشروعاً بالمعنى الذي يحاول الإخوان تقديمه، ولا تسعى إلى امتلاك مثل هذا المشروع.
من المفهوم أن هيئة تحرير الشام حكمت إدلب من موقعها الجهادي، حيث تضافرت كالمعتاد الرؤية المتطرفة مع المظلومية السنّيّة. كان ذلك كافياً لحكم إدلب الصغيرة، مع وجود شبح الانتقام الأسدي، من دون أن يعني رضى أهالي إدلب عن توجهات الهيئة أو أسلوبها في الحكم. في كل الأحوال، الأمر مختلف جداً مع حكم سوريا، مختلف داخلياً وخارجياً، وإذا كان قادة السلطة يتفاخرون بأنهم كانوا يعدّون أنفسهم للحظة إسقاط الأسد، فمن المؤكد أنهم "نسوا" ضمن هذا الإعداد تجهيز مشروع لحكم سوريا.
في الواقع يندر أن تحكم سلطة ما بلداً بلا مشروع تحمله، فتتنوع المشاريع بين ما هو أيديولوجي صارم وما هو إداري واقتصادي يعكس توجهات فكرية أيضاً... إلخ. وحدها الأنظمة الوراثية بقيت بمنأى عن هذا الشرط، إلا أن معظم الورثة في العصر الحديث لم يعودوا يكتفون بوراثة المُلْك، وراحوا يقدّمون أنفسهم أصحاب رؤى تختلف عن أسلافهم، ليكتسبوا تميّزاً عنهم ومشروعيةً شخصية تتعدّى الوراثة.
في التجربة السورية نفسها يمكن ملاحظة تقدّم المشروع القومي أثناء سنوات الاستقلال الأولى، على حساب تجربة ليبرالية متعثّرة، وآل المشروع إلى وحدة فاشلة مع مصر، أعقبها الانفصال الذي حمل نزوعاً وطنياً، ثم أُجهِض بانقلاب البعث. قدّم حافظ الأسد نفسه صاحب مشروع تصحيحي ضمن البعث نفسه، ثم اقتبس عدّته التفصيلية من التجارب السوفيتية، ويصحّ القول إنه ظهر كرجل سلطة بلا أي مشروع مع ظهور فكرة التوريث إلى التنفيذ والعلن، ولإنقاذ السلطة من غياب المشروع اختُرعت للوريث رؤى تميّزه عن الأب.
من موقعها كسلطة انتقالية، ليس مطلوباً منها تقديم مشروع وفق المفهوم التقليدي، إلا أن المطلوب بالتأكيد هو تقديم مشروع مطابق للوضعية الانتقالية. إذ يتوجّب عليها تقديم رؤيا للإجراءات ولمراحل الانتقال السياسي، خلال السنوات الخمس، إلى نظام ديموقراطي تداولي. وفيما يخص السلم الأهلي والعدالة الانتقالية، فهي مطالبة بخريطة طريق تحافظ على الأول مع الشروع في الثانية التي تتطلب وقتاً أطول. الأمر نفسه ينطبق على المستويات الإدارية والاقتصادية، حيث يجب أن تتوافر الحساسية والدقة بين ما يستلزم إصلاحاً سريعاً وبين ما يُترك أمره لسلطة منتخبة وبرامج سياسية تُطرح في حينها بين المتنافسين.
توشك السنة الأولى من المرحلة الانتقالية على الانتهاء، ولم تطرح السلطة مشروعاً ضرورياً لتدشين مرحلة سياسية فعلية، فهي لا تزال تستفيد من إعلان الانتماء إلى الثورة، ومن فكرة التحرير كما تُسوَّق عاطفياً، ومن المظلومية السنّيّة التي تُستعاد بوفرة لتبرير كل ما تفعله اليوم؛ أيضاً مع تدنّي الانتباه إلى عدم جواز اجتماع المظلومية والسلطة معاً، إذ يُفترض أن تكون الأولى قد استهلّت طور الاستشفاء. وبعد مرور هذا الوقت لا مؤشرات على أن السلطة في طور الإعداد لمشروع من هذا القبيل، ما يُرجِّح كونها لا تريده، أكثر من كونها عاجزة عنه.
حتى الآن تستفيد السلطة من حالة اللايقين، فلا ضغوط تستعجلها للخروج إلى الوضوح المعبَّر عنه بمشروع يلزمها قبل إرضاء الآخرين. بعبارة أخرى، لا تريد إلزام نفسها بأي التزام، ولو كان من وضْعها. بل من المرجَّح أن حالة عدم اليقين متعمَّدة، ولو عبّرت أولاً عن تخبُّط البدايات. فاليوم، وعلى معظم الأصعدة، يمكن العثور على الشيء ونقيضه، ما يعطيها مساحة مريحة من المناورة، ثم التملّص من تبعات أي فعل. وهي بهذا لا تتهرّب من تبعات الأفعال بالمعنى المباشر فحسب، بل تتهرّب من تبعات السجال السياسي، وتعيق وجوده أصلاً، إذ لا يقوم حوار جاد وحقيقي مع طرف لا يعرِّف نفسه مفاهيمياً.
ليست المسألة أن تقبل السلطة أو لا تقبل بوثيقة الإخوان، بل هي في المراهنة على الاستمرار بلا ضوابط ما دام ذلك متاحاً، وما دامت هناك شريحة واسعة تضع اللايقين في مرتبة المرونة والشطارة السياسية. الاستمرار على هذا النحو يجعل المرحلة الانتقالية ضمن أضيق فهْمٍ لها، إذ يكون الانتقال من عهد الأسد، أما إلى أين، فلا أحد لديه جواب.
