الشرع في روسيا برضى أميركي

عمر قدورالسبت 2025/10/18
أحمد الشرع فلاديمير بوتين (Getty)
الوجود الروسي في سوريا لم يُقابل باعتراض أميركي (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

من المعلوم أن لزيارة الشرع إلى روسيا، يوم الأربعاء الفائت، وقعاً مختلفاً عن لقاءاته الخارجية حتى الآن. فموسكو أنقذت الأسد من السقوط قبل عشر سنوات، وارتكب طيرانها الكثير من المجازر بقصف المدنيين في أماكن سيطرة فصائل معارضة، بل وبقصف المستشفيات والأفران. تباهى مسؤولون روس بأن مجازرهم في سوريا هي فرصة لاختبار فعالية أسلحة جديدة، وبأنها كلفتها لا تتعدى تكاليف التدريب الروتينية. بوتين شخصياً لم يكن خارج منطوق الصفاقة العدوانية تجاه الضحايا السوريين، وكان صريحاً في رفض التسوية بموجب القرار 2254 الذي وافقت عليه بلاده في مجلس الأمن.

 

تباينت ردود الأفعال حول زيارة الشرع حتى بين مؤيديه، فضحايا التدخل الروسي لصالح بشار لم تجفّ دماؤهم بعد، والأخير موجود في موسكو، يتمتع بحمايتها وبالثروات التي تم نهبها خلال أكثر من نصف قرن من حكم العائلة. في المقابل، هناك من رأى في الزيارة سلوكاً ينتمي إلى الواقعية السياسية، لأن روسيا بلد له مكانته الدولية، بما في ذلك حق الفيتو في مجلس الأمن، والمواجهة معها غير ممكنة بسبب الاختلال الكبير في الموازين.

في الجدال يبدو كأن قرار الاستمرار بالعلاقة مع روسيا داخلي بحت، رغم أن المنطق يشير إلى لعب أنقرة دوراً أساسياً في التمهيد للزيارة، وربما في تحديد تفاصيلها التقنية وتلك المتعلقة بمحاور المباحثات. أيضاً، من المستحسن الانتباه إلى عدم وجود اعتراض غربي، أميركي في المقام الأول، على تحسن العلاقات بين الشرع وموسكو، فضمن السعي إلى استمالة واشنطن لن يكون منطقياً إغضابها بمدّ الجسور في اتجاه لا تريده.

 

من المؤكد، في الحد الأدنى، أن واشنطن غير مكترثة بالزيارة. بل لعلنا لا نجازف بالقول إن الزيارة تحظى برضى واشنطن لأنها تتوافق مع مشيئتها، ومع مجمل سياساتها إزاء سوريا. نذكّر بأن الوجود الروسي في سوريا، والتدخل العسكري لصالح بشار الأسد، لم يُقابلا باعتراض أميركي جاد، لا في عهد أوباما ولا في ولاية ترامب الأولى. والآن، في الولاية الرئاسية الثانية له ليس ثمة ما يشير إلى تغيّر في سياسة واشنطن يجعلها ترفض الوجود الروسي في سوريا، وإلا كانت الأحداث مضت في اتجاه مغاير تماماً.

طوال عقود من حكم عائلة الأسد لم تدخل سوريا ضمن مناطق النفوذ الأميركي، ولم تكن أيضاً مصدر خطر وهي تقيم علاقات أوثق مع روسيا. الأقرب إلى الواقع هو أن سوريا لا قيمة استراتيجية لها في المنظور الأميركي الأوسع، فخريطة القواعد العسكرية الأميركية تغطّي المنطقة على نحو كافٍ، والتواجد الأميركي مرتبط إلى حد كبير بأوزان البلدان وتأثيرها. مثلاً، يمكن بسهولة فهم القيمة الاستراتيجية لتركيا، بثقلها العسكري والاقتصادي وبموقعها. وبمقارنة تركيا مع سوريا، من كافة النواحي، لا يصعب فهم القيمة الاستراتيجية المتدنية للثانية منهما.

هذه القيمة المتدنية جعلت أوباما يتعامل مع سوريا كأقلّ من ملف، لتكون عبارة عن ورقة تفاوض مع طهران لا أكثر. ثم، عندما فشلت طهران في حماية حليفها، تواطأ أوباما مع التدخل الروسي، ولم يحاول إعاقته أو تكبيد موسكو أقل ثمن في سوريا، بل أبرم تفاهمات لضمان عدم الاحتكاك بين القوتين على الأراضي السورية. وتابع ترامب على هذا الصعيد سياسة سلفه الذي لا يطيقه، وكانت إدارته طرفاً غير معلن في تفاهمات بين أنقرة وموسكو في سوريا.

 

لقد سُمِح لموسكو بالقيام بالمهمة القذرة في سوريا، وبثمن مغرٍ لها في حين لا وزن له في الميزان الاستراتيجي الأميركي. هنا أيضاً ما يجب ملاحظته جيداً، لجهة الدور الذي يمكن أن تلعبه موسكو مجدداً في سوريا، ويوافق المشيئة الأميركية والغربية عموماً. فحتى الآن لا يبدو أن الدول الغربية مستعدة لتسليح الجيش الذي تبنيه السلطة الجديدة، والقوة الوحيدة التي ترغب في المساعدة هي تركيا، لكنها محدودة الإمكانيات من حيث تنوع العتاد الذي تستطيع تقديمه، وفي أكثر من مناسبة كانت محاولات الدعم التركي عُرضة لغارات إسرائيلية، عندما تجاوزت الشمال السوري إلى المنطقة الوسطى.

مثال الجيش مهم وحاسم جداً، ومن الصعب وفق المعطيات المنظورة توقّع وصول عتاد عسكري غربي متطور إلى سوريا، فهذا دونه فيتو إسرائيلي صارم. وهناك سوابق كثيرة على تدخل تل أبيب في صفقات أسلحة أميركية إلى دول في المنطقة ليست في الجوار، خصوصاً في مجال الطيران والدفاع الجوي حيث تريد الحفاظ على تفوقها وسيطرتها على أجواء المنطقة.

 

لكن الأمر لا يتوقف عند الأسلحة المتطورة، فحتى توريدات الأسلحة الأقل شأناً غير متاحة بسهولة في البلدان الغربية، لأنها تخضع للعديد من المستويات الرقابية، في البرلمانات وفي الإعلام، ما يلجم حرية الحكومات في إبرام الصفقات. واليوم يمكن الجزم بأن السلطة الجديدة في دمشق ليست خياراً مقبولاً لدعمها بعتاد لا يشكّل أدنى خطر على إسرائيل، ما يُرجِّح بشدة أن يكون مجال استخدامه الوحيد هو في الداخل السوري، الأمر الذي قد يضع الحكومات الغربية أمام مساءلات هي بغنى عنها حول الالتزام بمعايير حقوق الإنسان.

على العكس تماماً من الغرب، تُعدّ الصناعات العسكرية أساسية في الاقتصاد الروسي، من دون ربط توريدات الأسلحة بشروط سوى ما قد تقتضيه المصالح الخارجية الروسية، أي من دون تدخُّل في الشؤون الداخلية للأنظمة التي تحصل على السلاح الروسي. هذا بالضبط ما ركّزت عليه الدعاية الروسية بالقول إن موسكو تحترم سيادات الدول، ففحوى القول أنها لا تكترث بسلوك الحكومات تجاه شعوبها، ولا تربط تحالفاتها بهذا المعيار. وما تؤكّد عليه الدعاية الروسية ينسجم مع الواقع الروسي، حيث لا توجد آليات رقابية تبدأ في الداخل وتتضمن مساءلة السياسة الخارجية عموماُ، ومنها صفقات توريد الأسلحة. وبسبب الواقع نفسه تركّز الدعاية الروسية على أن بوتين حليف موثوق، بخلاف القادة الغربيين. وهو للحق كذلك، لأنه يحكم بلا رقابة أولاً، ولأنه ثانياً يحكم بلا حدود زمنية كالتي تتحكم بقادة الغرب، ولن يأتي بالانتخابات بديل يتراجع عن سياساته. لذا هو موثوق ما بقي في السلطة، وهو باقٍ فيها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

 

فيما يظهر نوعاً من الطرفة التي قد لا تخلو من خبث، نقلت وسائل إعلام عن بوتين إشادته بـ"انتخابات مجلس الشعب" في سوريا، أثناء زيارة الشرع. الطرفة تأتي من أنها لم تكن انتخابات بالمعنى المتداول عالمياً، لكنها حقاً من النوع الذي يفضّله بوتين داخلياً وخارجياً. والخبث لا يأتي من توجيه رسالة مبطّنة بالسخرية لضيفه، بل من كونها رسالة جادة مفادها أنه سيلقى الترحيب في موسكو على نهج قد يلاقي الاستياء في الدوائر الغربية. هنا أيضاً قد يؤدي بوتين المهمة التي لا يريد الغرب تأديتها بنفسه، أي أن مصالح بوتين قد تتوافق في هذا الجانب مع المشيئة الغربية.

المشكلة في استعادة العلاقة السورية-الروسية، بدءاً من جانبها التسليحي، ليست في التنكّر للدم السوري الذي لم يجف بعد، ولا في استضافة بشار الأسد وجزء من حاشيته. المشكلة ليست فيما مضى فحسب، هي في محاذير ما قد يأتي. 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث