كتاب "ميثاق الشرف"، للفيلسوف الغاني البريطاني كوامي أنطوني أبياه، ليس مجرد دراسة في الفلسفة الأخلاقية، بل هو بحث في آليات التحولات العميقة التي يشهدها ضمير الشعوب عبر التاريخ. يطرح أبياه سؤالًا محوريًا: كيف تنهار عادات راسخة في المجتمعات، كانت تُعتبر يومًا طبيعية أو حتى علامة على الشرف، ثم تصبح فجأة وصمة عار يتبرأ منها الجميع؟ جوابه أن الثورات الأخلاقية لا تصنعها القوانين وحدها، ولا الضغوط الخارجية، بل عندما يقتنع الناس أن ممارسة ما باتت تجرّدهم من الكرامة وتلطخ شرفهم الجمعي.
يضرب أبياه أمثلة من التاريخ: في إنكلترا، انتهت عادة المبارزة التي كان النبلاء يرونها تعبيرا عن الشجاعة والكرامة، بعدما صارت علامة على التخلف وإهانة لطبقتهم. في الصين، جرى التخلي عن عادة ربط أقدام الفتيات، بعد قرون من ممارستها كرمز للجمال وعلو المكانة، حين أصبحت رمزًا للجهل والتعذيب. وفي الأطلسي، انهارت العبودية لا لأنها ممارسة قاسية فقط، بل لأنها غدت عارا يجرح سمعة الأمم التي تواصلها. المغزى واضح: المجتمعات لا تتغير حين تُسنّ القوانين فحسب، بل حين تنقلب الموازين الداخلية للشرف والعار.
وإذا أسقطنا هذه الرؤية على سوريا ما بعد سقوط النظام، يتضح أن الثورة السياسية والعسكرية ليست كافية. التحدي الأكبر أمام السوريين هو الثورة الأخلاقية: هل يمكن أن يقولوا "كفى" للممارسات التي أذلتهم في الماضي وتعود اليوم بوجوه جديدة؟ أخطر ما يهدد سوريا ليس فقط محاولات بقايا النظام للعودة، بل خطر قبول المجتمع بإعادة إنتاج العنف والفساد والتمييز في أثواب أخرى.
في هذا السياق، تبرز مجازر الساحل والسويداء بوصفها لحظة اختبار مصيرية. ارتكبتها قوات محسوبة على النظام الجديد أو ميليشيات متحالفة معه، وحاول بعض السوريين تبريرها بدوافع طائفية أو انتقامية أو سياسية. لكن القبول بمثل هذه التبريرات يعني أن الثورة الأخلاقية ماتت قبل أن تولد. النظر إلى الدم السوري بمنطق "دمنا ودمهم" ليس إلا إعادة إنتاج لمنطق النظام السابق حين شرعن القتل باسم الوطن أو البقاء. وكما يقول أبياه، فإن المجتمعات التي تتسامح مع مثل هذه الممارسات تحمل وصمة عار لا يمحوها الزمن. الصمت عن القتل الجماعي أو التعايش معه لا يقل سوءًا عن المشاركة فيه، لأنه يسلب المجتمع شرفه وكرامته.
لكن المشكلة لا تقف عند حدود المجازر، فالإرث الثقيل يمتد إلى بنية الدولة نفسها. فالفساد الذي ازدهر، أيام النظام السابق، وخلال سنوات الحرب ما زال يتحكم بالمشهد. لم تُفتح ملفات الفساد بشفافية ولم تُنجز تسويات مالية واضحة مع كبار رموز النظام السابق. وتشير تقارير إلى أن أموالًا ضخمة تُدار خارج القنوات الرسمية، عبر شبكات جديدة أكثر نفوذًا تتحكم بالقرارات الإدارية والسياسية بلا رقيب. وعلى المنوال ذاته، تعاني البلاد من غياب الشفافية في التعيينات الإدارية، حيث تُبدَّل القيادات في الوزارات والمؤسسات الكبرى من دون معايير مهنية، مع اعتماد مفرط على دوائر ضيقة من الموالين الذين يفتقرون إلى الخبرة، بينما يُترك أصحاب الخبرة والكفاءة والمنشقون في حالة من الضبابية وانعدام الأمان. هذه الممارسات تعيد إنتاج عقلية الولاء على حساب الكفاءة، وتهدد النسيج المؤسسي للدولة.
ولا يختلف الحال في الجيش والأجهزة الأمنية التي يُعاد بناؤها بطريقة ارتجالية؛ فالمجندون الجدد يُقبلون بسرعة ويتم تكليفهم بمهام حساسة في بيئة مشحونة بالتوترات والانقسامات. والأخطر أن الضباط المنشقين، أصحاب الخبرة الفعلية، يُهمَّشون لصالح آخرين أقل كفاءة جرى تعيينهم عبر وساطات مناطقية أو شخصية، مما يقوّض فرص تأسيس مؤسسات عسكرية وأمنية محترفة ويزرع بذور قمع جديد. وفي القضاء، تتفاقم الأزمة مع تعيين شخصيات غير مؤهلة في مواقع حساسة، بينما تحتاج البلاد إلى قضاء مستقل قادر على معالجة ملفات العدالة الانتقالية ومحاكمات داعش والانتهاكات الحقوقية والعقارية. غياب قضاء مهني لا يعني فقط ضياع العدالة، بل انهيار ثقة المجتمع والمستثمرين بالدولة، وتحويل القانون إلى أداة بيد النافذين.
ويضاف إلى ذلك غياب مشروع وطني جامع قادر على صياغة عقد اجتماعي جديد يرضي السوريين جميعًا. فالقرارات تُتخذ داخل دوائر ضيقة لا تعكس التنوع السوري، والشراكة السياسية ضعيفة، مما يترك فراغًا خطيرًا يكرس الانقسام ويمنع بناء رؤية وطنية مشتركة. أما الفصائل المسلحة المرتبطة بالسلطة الجديدة فقد تحولت إلى قوى موازية للدولة، تدير شبكات نفوذها الخاصة مستخدمة أدوات الدولة ذاتها، بينما تُهمَّش الكفاءات السورية القادرة على تقديم الرأي والخبرة، ما يعمّق الهوة بين السلطة والمجتمع.
في المجال الاقتصادي، تبدو الصورة قاتمة بالقدر نفسه. فرغم الوعود الكبيرة باستثمارات سعودية قطرية وغيرها، لا توجد رؤية واضحة، ولا خطة استراتيجية توظف تلك الاستثمارات بما يخدم احتياجات المجتمع السوري. تُمنح العقود والعطاءات على أساس العلاقات الشخصية والمحسوبيات، لا وفق معايير وطنية شفافة، وهو ما ينذر بإعادة إنتاج شبكات الفساد على نطاق أوسع.
كل هذه المظاهر تجعل من مفهوم "ميثاق الشرف" عند أبياه ضرورة سورية عاجلة. الشرف في سوريا الجديدة لا يمكن أن يبقى مرتبطًا بالزعيم أو الطائفة أو الولاء الضيق. يجب أن يُعاد تعريفه ليعني الحرية والعدالة والمواطنة والسيادة. الشرف أن ترفض الرشوة ولو قبلها الجميع، أن تحتج على اعتقال مظلوم ولو لم يكن من جماعتك، أن تدافع عن حق خصمك في الحرية كما تدافع عن حقك، وأن ترفض التبعية للخارج مهما كانت الإغراءات.
الثورات الأخلاقية، كما يوضح أبياه، لا تبدأ من قرارات عليا، بل من القاعدة الاجتماعية. حين يرفض المواطن دفع رشوة، حين تصر عائلة على معرفة مصير ابنها، حين يتمسك الصحفي بالحقيقة، حين يرفض الشاب والفتاة الاصطفاف الطائفي، تبدأ اللحظة التي تتحول فيها الممارسات من "مقبولة" إلى "عار لا يُطاق". هذه هي الشرارة التي يمكن أن تشعل التغيير الحقيقي.
أخطر ما يواجه السوريين اليوم ليس شبح عودة النظام، بل خطر القبول بسلطات جديدة تكرر ممارساته. إذا أصبح التبرير للمجازر، والقبول بالفساد، والصمت على الكذب الإعلامي أمورًا طبيعية، فإن الثورة تكون قد خسرت معناها مهما تغيّرت الأسماء. أما إذا أدرك السوريون أن هذه الممارسات جميعها وصمة عار لا يمكن التعايش معها، فإنهم يكونون قد أسسوا ثورتهم الأخلاقية الحقيقية.
الشرف السوري بعد الأسد يجب ألا يُبنى على الدم ولا على الولاء الأعمى، بل على الحرية والعدالة والمواطنة الكاملة. عندها فقط يمكن أن تخرج سوريا من عار الماضي إلى كرامة المستقبل، وأن تقول للعالم بلسان واحد: لقد استعدنا شرفنا، ولن نلوثه بعد اليوم.
