الشرع في موسكو: الواقعية تنتصر

صبا ياسر مدورالجمعة 2025/10/17
الشرع في موسكو الكرملين بوتين (Getty)
الشرع في الكرملين محاطاً بفخامة الاستقبال (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

كان وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، يخوض السياسة وفق مبدأ الواقعية البراغماتية. قاد انفتاحاً على الصين، وتوازناً مع الاتحاد السوفياتي، وأنهى حرب فيتنام. فكان حسب توصيفات عديدة، من أهم وزراء الخارجية في تاريخ الولايات المتحدة والعالم. لم تغير تلك السياسات في رصيد القوة الأميركية بل زادتها، ومنعت عنها تحديات ومعارك جانبية تستنزفها بلا نتيجة فعلية.

قبل كيسنجر، كان الزعيم الفرنسي شارل ديغول أبرز من جسد الواقعية السياسية. فقد عمل وفق مبدأ مصالح بلاده أولاً، قبل التحالفات الخارجية والأيديولوجيات، فاستقل عن القوى الغربية -وخصوصاً الولايات المتحدة- وانسحب من الجناح العسكري للناتو، واقترب من دول العالم الثالث وحركات التحرر. والأهم من ذلك، أنه تجاوز العقد التاريخية وهيمنة الميراث الاستعماري، حينما جنّب بلاده حرباً أهلية بموافقته على اتفاقية ايفيان Accords d’Évian التي منحت الجزائر استقلالها، بعد أكثر من 130 عاماً من الاستعمار، ونحو عقد من حرب التحرير، قائلا عبارته الواقعية الشهيرة: "الجزائر لم تعد فرنسا، إنه من الجنون أن نحاول إيقاف حركة التاريخ".

 

هذا النهج البراغماتي شكل منعطفات بارزة في تاريخ هذه القوى الدولية، بل وأسس للتاريخ المعاصر الذي نعرفه. ونشهد اليوم وقائع تسير على طريق الواقعية نفسها تمارسها القيادة السورية، لتؤسس للتاريخ المقبل في سوريا والشرق الأوسط. وكانت زيارة الرئيس الشرع إلى موسكو إحدى تجلياتها المهمة والفارقة.

هذه الزيارة تأخذ بالاعتبار- بل وتتجاوز- الظروف الضاغطة التي اضطرت إدارة البلاد ما بعد سقوط الأسد إلى مواقف كانت مجبرة عليها، بحكم قواعد الأولويات، وهشاشة الدولة الموروثة من النظام المخلوع، فضلاً عن تعقيدات المرحلة الانتقالية في الداخل والخارج. تلك المواقف جرى فهمها على أساس الظرف الخاص الذي تعيشه سوريا، والأبرز في ذلك تحاشي اتخاذ موقف ضد الانتهاكات الإسرائيلية للأراضي السورية، واللجوء بدلاً من ذلك إلى التفاهمات السياسية بالوساطة الأميركية، وكذلك الحال بإحالة الأزمات الداخلية إلى الجهد الدبلوماسي الخارجي ومتغيرات المستقبل في المنطقة.

 

تلك الظروف الضاغطة دفعت السلطة السورية لسلوك طريق "إجباري" أحياناً لكنه كان آمناً نسبياً، ولا يحيد بها عن الهدف الأساسي المتمثل بخروج سوريا من العزلة الدولية، وتجنيبها مخاطر حقيقية بالتفتيت الجغرافي. لكن استعادة العلاقة مع روسيا لم تكن أبداً ضمن هذه الظروف الضاغطة، بل أنها تعتبر عند كثير من الثوار أمراً غير مرغوب فيه، وينبغي تجاوزه بالقطيعة، على غرار ما يجري مع إيران، بسبب مشاركة البلدين في دعم وحماية نظام الأسد، وفي التسبب بقتل وتهجير عدد لا يحصى من السوريين خلال ما يتجاوز العقد الكامل.

كانت ميول غالبية السوريين تتجه نحو القطيعة من موسكو. وهذا مفهوم ومبرر، بل أن البعض استنكر التأخر في ذلك، حتى تراجع الأمر برمته من قائمة الأولويات ولم يعد ضاغطاً على القيادة السورية، لتبدأ هذه المرة عملية مناقضة تماماً للتوقعات، تتمثل باستعادة زخم العلاقات بدلاً من قطعها. فزار الوزير أسعد الشيباني موسكو ليلتقي الوزير لافروف نهاية يوليو/تموز ثم ليلتقيه ثانية في سبتمبر/أيلول في نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة في نيويورك.

 

والأبرز من هذا، أن الرئيس الشرع كان مخططاً له أن يزور موسكو ضمن قمة عربية روسية تعقد في موسكو منتصف أكتوبر/ تشرين الثاني، لكن روسيا أعلنت تأجيل القمة لنحو شهر، لاعتبارات تتعلق بخطة وقف الحرب على غزة. ومع ذلك، لم ينتظر الرئيس السوري الموعد الجديد للقمة، بل زار روسيا في الموعد المقرر ليمنح الزيارة بعداً مختلفاً، وليؤكد أن الأمر يتعدى الجانب الاحتفالي والشكلي بإبقاء العلاقات مع روسيا، إلى نمط من تعاون في ملفات كثيرة متشابكة، تتقاطع فيها مصلحة الطرفين، وضمن علاقة سورية روسية جديدة لا تشبه مرحلتي العهد السوفياتي وفترة بوتين السابقة، حين كانت سوريا الأسد معزولة عن القوى الدولية الكبرى، ومتكئة على العصا الإيرانية وحدها.

لم يكن الأمر بالنسبة إلى الشرع مجرد تجنب لاستعداء قوة عظمى تملك عضوية دائمة في مجلس الأمن، وإلا لاكتفى بما هو قائم وانتظر القمة ليحضرها. لكنه أراد من الزيارة فضلاً عن معالجة ملفات متعددة مرتبطة بالتعاون مع روسيا، أن يخلق سياقاً جديداً لعلاقات سوريا، وخصوصاً مع الغرب وتحديداً بين الولايات المتحدة وأوروبا، في محاولة من الشرع لتنويع شراكاته وبدائله، وتصفير الأعداء وكسب الأطراف، لتحقيق خيارات بديلة توفر الغطاء والفعالية وقت الحاجة.

 

ورغم واقعية هذه المقاربة وجدواها في ظل اهتمام الأطراف الغربية لإبقاء مساحتها في سوريا، وتنبيه إدراكهم أنهم ليسوا وحدهم في الميدان السوري، تبقى سياسة "تصفير الأعداء" محفوفة بالمخاطر. إذ أثبتت التجربة التركية أن الوصول إلى "صفر أعداء" يكاد يكون مستحيلاً في بيئة معقدة في منطقتنا، وبالأخص مثل سوريا. لكن تخفيف المخاطر والتدخلات السلبية قد يكون الخيار الأفضل والأكثر واقعية. وهو ربما ما قد تمنحه العلاقات مع روسيا في الوقت الراهن في أقل التوقعات وأحسنها.

أما على مستوى الملفات الداخلية، فمن المتوقع أن يكون للدور الروسي أثر حقيقي في معالجتها، أكثر مما يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة، التي قد لا تعنيها كثيراً بعض التفاصيل الداخلية كما تعني روسيا. وتشمل هذه الملفات البنى الدفاعية، والبنى التحتية، وتوفير المستلزمات الأساسية ، إلى جانب التعاون الاستخباراتي، والمساعدة في تسليم المطلوبين من الصفين الثاني والثالث من النظام، لتقديمهم للعدالة الانتقالية بهدف تخفيف احتقان الشارع السوري. أما ملف تسليم بشار الأسد فما زال عالقاً. إذ لا يوجد حتى الآن أي تجاوب روسي واضح، لا سلباً ولا إيجاباً في المرحلة الراهنة. إضافة لذلك والأهم، أن العلاقة مع روسيا توفر للقيادة الجديدة وسيطاً إضافياً في إدارة العلاقة مع إسرائيل، بما يضبط الأوضاع في الجنوب ويحول دون الانهيار. وينسحب ذلك أيضاً على ما يمكن أن تفعله إيران وحلفاؤها في المنطقة من إجراءات ضد سوريا، وهو احتمال ما زال قائماً، وإن كان قد تراجع بعد ضعف المحور الإيراني وتفككه النسبي.

 

هذه العلاقة، على أهميتها الاستراتيجية، لا ينبغي أن تستثني إرث الماضي الدامي، الذي يجب أن يتدخل في صياغة جزء من "بناء العلاقة الجديدة" التي أبداها الرئيس الشرع في الكرملين ويسعى لها، لاسيما مع رغبة بوتين في "طي صفحة الماضي"، وهذا لا يمكن أن يتحقق فعلياً إلا عبر خطوات ملموسة تُثبت أن التغيير لا يخص سوريا وحدها، بل يشمل روسيا أيضاً. وهذا يستدعي من القيادة السورية انتهاج سياسة الضغط الإيجابي تضمن تحصيل تعويضات للمتضررين، وحماية الحق العام، عبر اتفاقيات في مشاريع إعادة الإعمار واستثمارات الطاقة، بما لا يحمل سوريا أعباء مالية مباشرة.

وبطبيعة الحال، سيكون من الضروري أيضاً، مراجعة جميع الاتفاقيات السابقة مع موسكو، رغم التزام الرئيس الشرع بالاستمرار في العمل بها، ضماناً لدفع التقدم في العلاقات الثنائية. غير أن ذلك لا ينفي الحاجة إلى إعادة النظر وتعديل بعض البنود بما يتلاءم مع المصلحة الوطنية السورية. وهي خطوة من المنطقي أن تستجيب لها روسيا، التي لا تريد خسارة سوريا في أي حال من الأحوال، حرصاً على مكاسبها الاستراتيجية في المياه الدافئة، التي خاضت من أجلها صراعات. فروسيا تحتاج إلى سوريا بقدر ما تحتاج سوريا إلى روسيا في مصالح مشتركة. وهذا ما يمنح دمشق مساحة أوسع لإعادة ضبط إيقاع العلاقة وفق معادلة الندية لا التبعية، ضمن ما يتكلم عنه الرئيس الشرع، الذي من الواضح أنه يسعى للحفاظ على توازن دقيق بين الشرق والغرب في ظل حساباته باحتمالات التراجع الأميركي في أي تحول مقبل.

 

بعيداً عن كل ذلك، فإن حضور الرئيس الشرع في الكرملين محاطاً بفخامة الاستقبال، فيما الأسد يقبع في شقته بموسكو تحت الحراسة يتابع تبدل الأحوال، ويقلق على مصيره واحتمال تسليمه إلى دمشق لمحاكمته، في حال تكاثفت الظروف... هذا الأمر المعنوي بمعزل عن كل شي، يكرس صورة سوريا المنتصرة، التي تمكنت من تطويع الواقع بشكل ذكي وهادئ -وبتكلفة طويلة دامية وتصاعدية- بعيداً عن الحماسة ومراهقة السياسة التي كانت ستكون متوقعة بالنسبة لنظام ثوري، كما حصل طوال تاريخنا العربي، ومنه السوري بطبيعة الحال.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث