سوريا وخطر السلاح المنفلت بين الناس

ميشال شمّاسالأربعاء 2025/10/15
الأمن السوري (Getty)
انتشار السلاح خارج المؤسسات الرسمية يُشكل تهديداً وجودياً للدولة (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

في سوريا اليوم، لم يعد القتل حدثاً نادراً يُثير الذهول، بل تحوّل إلى مشهد يومي يتسلّل إلى تفاصيل الحياة بصمت قاتل. في القرى والمدن، تُوثّق الجرائم بعبارات مقتضبة على صفحات الأخبار: "مقتل ثلاثة"، "إطلاق نار على مدنيين"، "اغتيال مرشح"، "ملثمون يطلقون النار". هذا التكرار لا يعكس خللاً أمنياً عابراً، بل يكشف عن بنية مأزومة تُعيد إنتاج العنف بوصفه ممارسة شبه اعتيادية، في ظل غياب رؤية واضحة لضبط السلاح أو مساءلة حامليه.

 

خلال الشهر الماضي شهدت سوريا سلسلة من عمليات القتل في مناطق متفرقة، تكشف نمطاً متكرراً من العنف المنفلت. في قرية عناز بوادي النصارى، أطلق ملثّمون النار على مدنيين، ما أدى إلى مقتل اثنين وجرح ثالث، وقبلها في اليوم نفسه قُتل أحد المرشحين لانتخابات مجلس الشعب في طرطوس، وثلاثة إخوة في قرية حيالين بحماه. وقبلها بأيام قتل أربعة أشخاص في قرية جدرين بريف حماة. ومنذ بداية الشهر الحالي حدثت عمليات قتل لثلاثة أشخاص وأمرأة في حمص، وفي اللاذقية اختطف طفل من أمام مدرسته وقتل شاب أيضاً. وفي شمال شرق سوريا أعدمت ميلشيات قسد شاباً بتهمة العمالة لتركيا. وقبل أربعة أيام قتل ستة أشخاص بدرعا بالرصاص، ومنذ يومين قتل شاب وجرح والده وشقيقه في عملية سطو مسلح بقرية "دنحة"بريف حمص الغربي.. هذه ليست حوادث معزولة، بل حلقات متتابعة من مسلسل انفلات السلاح وغياب المحاسبة. ما يجمع بينها ليس فقط توقيتها المتقارب، بل نمطها المتكرر: سلاح منتشر بين الناس، مثلمون، وقتلى مدنيون. 

 

في ضوء هذه الحوادث المتكررة، لا يمكن اعتبار القتل اليومي مجرد نتيجة لانفلات أمني عابر، بل هو انعكاس مباشر لسياسات متراخية، تجاه من يملكون السلاح خارج المنظومة الرسمية. إنه مؤشر على خلل بنيوي يتطلب مواجهة جذرية، لا مجرد ردود فعل مؤقتة.

ينص الإعلان الدستوري السوري على أن حمل السلاح واستخدامه محصور بالأجهزة الأمنية والجيش، في محاولة لضبط أدوات القوة داخل إطار الدولة. لكن الواقع يكشف عن مشهد مختلف تماماً، فالسلاح منتشر بكثافة في أيدي غير المخولين، من ميليشيات محلية إلى أفراد مدنيين، من دون رقابة فعلية أو مساءلة قانونية. هذا الانفلات لا يهدد السلم الأهلي فحسب، بل يقوّض أسس الدولة نفسها، ويحوّل القانون إلى نص معلّق يُطبّق انتقائياً أو يُهمَل تماماً.

في هذا الواقع الأمني المختل، يتحوّل حمل السلاح إلى امتياز غير خاضع للمحاسبة، يُستخدم أحياناً كأداة نفوذ أو وسيلة لحسم الخلافات الشخصية، مما يكرّس ثقافة الإفلات من العقاب ويُضعف ثقة المواطن في مؤسسات الدولة، ويهدد بعواقب وخيمة.

حين تتكرر حوادث القتل، تُصدر السلطة بيانات إدانة وتعلن فتح تحقيقات لكشف الجناة، لكن استمرار وقوع الجرائم، يجعل هذه المواقف الرسمية غير كافية لطمأنة المواطنين أو لوقف النزيف. فالاكتفاء بردود فعل متأخرة، من دون إجراءات عملية لضبط الأمن، يُضعف هيبة القانون ويُبقي السلاح المنفلت خارج دائرة المحاسبة.

 

إن مسؤولية السلطة لا تنتهي عند إصدار بيانات الإدانة، بل تبدأ من الاعتراف الصريح بأن انتشار السلاح خارج المؤسسات الرسمية يُشكّل تهديداً وجودياً للدولة والمجتمع. فكل من يحمل السلاح خارج المنظومة القانونية يجب أن يُعامل كمجرم، وتُفرض عليه عقوبات رادعة، تماماً كما يجب محاسبة من يموّل هذه الظاهرة أو يغض الطرف عنها، حمايةً للسلم الأهلي واستعادةً لهيبة القانون.

في مواجهة تكرار الجرائم، ما زالت السلطة عاجزة عن تقديم خطة واضحة لضبط الأمن أو مساءلة المتورطين، وتركت المجال لتفسيرات إعلامية ومواقف مؤيدين يروّجون لفكرة أن المسؤولية تقع على "الفلول" أو "الجهات الخارجية"، من دون تحديد أو مساءلة فعلية. هذا النمط من التبرير لا يُفسَّر فقط بالعجز، بل يُثير تساؤلات مشروعة حول جدّية التعامل مع ملف السلاح المنفلت، وحول أسباب التغاضي عن الجهات التي تحمله خارج المنظومة الرسمية. وفي ظل هذا الالتباس، تتآكل الثقة العامة، ويزداد الشعور بأن الأمن يُدار بمنطق رد الفعل لا بمنهجية الوقاية، وأن القانون يُستدعى حين يُناسب الخطاب الرسمي، لا حين يحتاجه المواطن.

في ظل هذا الانفلات، لم يعد المواطن يشعر بالأمان في قريته أو مدينته، بل بات الخوف جزءاً من تفاصيل حياته اليومية. لم يعد يعرف من يحمل السلاح، ولا لماذا يُستخدم، ولا من يُحاسب. هذا الغموض يُحوّل الحياة إلى تجربة مشوبة بالقلق والترقّب، ويُضعف الروابط الاجتماعية، ويُكرّس منطق الانعزال والشك بين أبناء المجتمع الواحد.

 

السلم الأهلي لا يتحقق بمجرد وقف إطلاق النار، بل يتطلب إعادة بناء العلاقة بين المواطن والدولة على أساس من العدالة والمساءلة المتساوية. فالقانون لا يجب أن يُطبّق انتقائياً، بل على الجميع من دون استثناء. لكن في سوريا اليوم، كثيراً ما يُلاحظ أن تطبيق القانون يطال الفئات الأضعف، بينما يُترك أصحاب النفوذ ليُعيدوا تشكيل الواقع وفق مصالحهم، مما يُعمّق الشعور بالظلم ويُهدد أسس التعايش. وما ينقص البلاد ليس مجرد ضبط السلاح، بل رؤية أمنية شاملة تُعيد الاعتبار لهذه العلاقة، وتُرمّم الثقة بين السلطة والمجتمع عبر إجراءات شفافة، ومحاسبة حقيقية، وتطبيق صارم للقانون من دون تمييز أو انتقائية.هذه الرؤية تبدأ بالاعتراف بأن السلاح خارج المنظومة الرسمية يُشكّل تهديداً وجودياً، وأن كل من يحمله يُعرّض حياة الآخرين للخطر. وعلى السلطة أن تُطلق حملة وطنية لسحب السلاح، تُرافقها إجراءات قانونية واضحة، وآليات رقابة مستقلة، وضمانات بعدم التمييز أو الانتقائية في التطبيق، بما يُعيد الاعتبار لفكرة العدالة ويُحصّن السلم الأهلي.

القتل اليومي في سوريا ليس قدراً محتوماً، بل نتيجة مباشرة لسياسات خاطئة ومتراخية تجاه مظاهر العنف وانتشار السلاح خارج المنظومة الرسمية. والاعتراف بهذه الحقيقة  يشكل الخطوة الأولى نحو معالجة هذه الظاهرة الخطيرة، أما تجاهلها، فهو استمرار القتل والعبث في السلم الأهلي وعرقلة بناء الدولة. 

مسؤولية السلطة لا تُقاس فقط بقدرتها على ضبط السلاح، بل بجرأتها على الاعتراف بالتقصير، واستعدادها لتصحيح المسار. فهل نملك، كمجتمع وسلطة، شجاعة الاعتراف؟ وهل تملك الدولة الإرادة لتعيد للسوريين حقهم في حياة آمنة، تُصان فيها كرامتهم، ويُحترم فيها القانون بوصفه عقداً لا يُستثنى منه أحد؟

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث