يوم الأربعاء الفائت كررت وزارة الخارجية الألمانية تحذيرها الرعايا الألمان من الذهاب إلى سوريا. أما الذين يخالفون التحذير ويخاطرون بالذهاب، فتتوجه إليهم الوزارة بالنصيحة: "اتخذ ترتيبات شاملة مع أفراد عائلتك في حال تعذّرت عودتك بسبب هجوم، اختطاف، حادث، أو إغلاق مفاجئ للطرق والمعابر. يُنصح بترك تفويضات قانونية؛ كتابة وصية، وتوضيح ما يتعلق بالوصاية على الأطفال إن وُجدوا".
لم ينل تحذير الخارجية الألمانية، المنشور على موقعها، أدنى اهتمام من وسائل إعلامية تلاحق تفاصيل الشأن السوري هنا وهناك، وتحرص على إبراز أيّة إشارة تخالف هذا التحذير، وتضخيمها. وبالطبع لم يتداوله "مؤثّرون" وناشطون كانوا في وقتٍ مضى قد ملأوا السوشيال ميديا بتعليقات تحتفي باستمالة قلب وزيرة الخارجية السابقة أنالينا بيربوك ومشاعرها، بحيث تكون رهن إشارة ما تريده منها دمشق، حتى عندما غادرت الوزيرة لتترأس الجمعية العامة للأمم المتحدة!
التحذير موجّه إلى حاملي الجنسية الألمانية الذين تلتزم حكومتهم برعايتهم وحمايتهم، مع التذكير بأن السفارة الألمانية في دمشق مغلقة أمام الزوار على نحوٍ عام، بخلاف ما يعتقد كثر، وبأنه "يمكن تقديم المساعدة القنصلية للمواطنين الألمان في سوريا على نحوٍ محدود للغاية". وبالطبع ينبغي عدم التضخيم من شأن التحذير، تحديداً لجهة انتظار آثار سياسية له، فمن المعلوم أن سياسات الدول الكبرى إزاء بلدان المنطقة لا تتوقف عند حسابات من هذا القبيل، وليس جديداً أن تتباين التحذيرات الخاصة بالرعايا مع السياسة العامة للحكومة.
يفصّل التحذير في الأسباب الموجبة له أمنياً، ومنها: "لا تزال الاشتباكات المسلحة تحدث في مناطق مختلفة من البلاد، آخرها في منطقة السويداء جنوباً، وكذلك على نحوٍ متكرر في شمال شرق وغرب البلاد". وأيضاً: "في المدن الكبرى وعلى الطرق بين هذه المدن، لا تُعد الاعتداءات الإجرامية مثل الاختطاف والسطو أمراً نادراً". وعلى نحوٍ خاص: "لا تزال مستويات الخطر مرتفعة جداً في المنطقة الساحلية، حيث سُجّلت العديد من حالات الاختطاف والقتل خارج نطاق القانون". وعلى نحوٍ أعمّ: "لا يمكن ضمان السلامة الشخصية في أيّة منطقة من سوريا، بما في ذلك دمشق وضواحيها.. يصعب تقييم سلوك الجهات الأمنية الجديدة في سوريا وتدريبها، وقد تصدر تصرفات غير متوقعة أو تعسفية".
الإسهاب في الاقتباس من التقرير الألماني مردُّه أنه مكتوب بحرَفية، وهو خارج التسييس حتى عندما يشير إلى أوجه قصور حكومية؛ أي إنه على النقيض من أنصار السلطة الذين لا يريدون مقاربة الملف الأمني، ولو من وجهة نظر تقنية بحتة، يُفترض فيها (نظرياً) أن تدعم السلطة أكثر من تجاهل الجرائم، أو تبريرها بمختلف الذرائع عندما يصبح الإنكار مستحيلاً. ولعل أغرب التبريرات هي تلك التي تنصّ على أن الجرائم تحدث في كل مكان في العالم، ويمكن الإتيان بأمثلة من بلد آخر على حوادث اختطاف واغتصاب، أو حتى بإحصائيات عن بلدان تسجّل مستوىً مرتفعاً من الجريمة، بلا توقّف أيضاً عند الأسباب الموجبة للمقارنة، أو أسباب تفشّي الجريمة في أي مكان.
مصيبة هذه المقارنات أنها تبرر ضمنياً التعايشَ مع الجريمة، بوصفه حدثاً اعتيادياً لا يستوجب التوقف عنده، ويتجاهل أصحابها أن المواطنين في معظم الدول التي تحدث فيها الجرائم لا ينكرون حدوثها؛ بل يضخّمون منها ومن مسؤولية السلطات عن منع حدوثها. هذا هو المعتاد السائد في بلدان العالم كلها؛ إذ يُنظر إلى توفير الأمن والأمان بوصف ذلك أدنى مسؤوليات السلطة بصرف النظر عن الموقف السياسي منها أو من وجودها أصلاً.
ليس عادياً على الإطلاق التهوين من حدوث جريمة، أو إنكارها بالمطلق، حتى إذا أتيا ردّاً على تضخيم مقابل. وعندما يأتي التهوين والإنكار لدوافع سياسية، ولو أنها مقابل دوافع سياسية مضادة، فالحصيلة لن تكون لمصلحة أصحاب التهوين والإنكار، ولن يتوقف الأذى عند الضحايا الحاليين. ثم إن تجريد الجريمة من محتواها البشع أو الفظيع، وتحويلها إلى مادة للسجال كأن الخلاف حولها يشبه أيّ خلاف في الذائقة الشخصية أو التوجه السياسي، يعني ببساطة تجاهل الآثار الأوسع لها، والتي لا تتوقف عند الضحية المباشرة فحسب.
على سبيل المثال، تجتمع في جامعة حمص مشارب اجتماعية ومنابت مذهبية متنوعة بتنوع المدينة وريفها. وتشهد مدينة حمص مستوىً عالياً من مستويات الفلتان الأمني، الذي لن نتوقف في هذا الحيز عند أبعاده الطائفية بما يتناسب معها ويليق بها. السؤال البسيط البريء هو: كيف يرسل الأهالي بناتهم إلى جامعة حمص في ظل التهديد بالاختطاف؟ وإذا كان التهديد بالاختطاف مصدره الانتماء الطائفي، فهل يمكن التعويل على دقّة المختطِفين في اختيار الضحية؟ فلا يختطفون فتاة فقط لأنها غير محجَّبة؟ وإذا صار الحجاب هو المعيار، ألا يعني هذا نوعاً من الهندسة الاجتماعية القسرية بفرض طراز محدد من اللباس؟ وإذا تعاون الأهالي، كما حدث في مكان آخر، وأرسلوا البنات جماعياً، بسيارات الميكروباص الصغيرة من أبواب البيوت إلى أبواب الجامعة أو المدارس، فمن يضمن عدم اعتراضهن من قبل مسلحين على الطرقات خارج المدن خصوصاً؟ ومن يعوّض الأهالي عن النقود الإضافية التي يدفعونها ثمناً للمزيد من الاحتياطات؟
من المعلوم أن السلطة الحالية استغنت عن جهاز الشرطة القديم، الذي يحتاج حقاً إلى إصلاح لا تقويض، وهي لم تكن بقواها الذاتية جاهزة لإدارة الملف الأمني في المناطق التي كان يسيطر عليها الأسد. وبما أن هذا هو الحال، وإذا كانت عاجزة عن ضبط الأمن في مناطق وجودها ولا يأتيها خطر من خارجها، وقد أكّدت كافة الدول المنخرطة في سوريا على وحدة أراضيها، فلماذا تستعجل بسط سيطرتها الأمنية على مناطق جديدة مثل السويداء والجزيرة؟ فلا تكتفي بالحضور المدني والإداري، في انتظار تحسين كفاءات الجهاز الأمني ليكون محلّ ثقة لدى العموم؟
وبما أن الوضع كذلك، لماذا يشجع مؤثرون تابعون للسلطة على حسمٍ عسكري هنا أو هناك، وعلى إراقة المزيد من الدماء، ثم في أحسن الأحوال تتحمل السلطة مسؤوليات إضافية لا يبدو أنها جاهزة لها؟ وحتى في مناطق الوجود الحالية، إذا كان الفلول موجودون حقاً في حمص والساحل، فهل هم أيضاً وراء الفلتان الأمني في مناطق أخرى؟ وإذا كان شبح الفلول على هذا القدر من الانتشار والتأثير، فكيف يمكن مرة أخرى الوثوق بقدرة السلطة على توفير الأمن والأمان؟ وإذا كان مَن يرتكب المجازر، ويقوم بأعمال الجريمة المنظمة والطائفية في آن، هم عناصر أو فصائل غير منضبطة، فكيف ستحصل السلطة على الثقة في الملف الأمني ما دامت عاجزة على ضبط العناصر أو الفصائل التابعة لها أولاً؟
هناك العديد من الأسئلة الأخرى التي تصبّ في السؤال عن سبب الإحجام عن مناقشة الوضع الأمني، بالرغم من تأثيراته المتشعّبة على مناحي الحياة، وأولها تفاصيل العيش اليومي، مثل التنقّل لأجل الدراسة والعمل، وضمن الأولوية نفسها التأثير السلبي لانعدام الأمن على الاقتصاد، وعلى حسابات المستثمرين. والسؤال الذي لا يجوز ولا يمكن تجاوزه هو: لماذا هناك إحساس لدى نسبة غالبة من أفراد بعض المجتمعات المحلية بأنهم على حافة المجزرة؟ ولماذا قال المبعوث الدولي المستقيل "غير بيدرسون"، في حديث لجريدة فايننشال تايمز يوم الخميس الفائت، إن الوضع في سوريا على حافة السكين؟
