لم تكن المدرسة في سوريا يوماً فضاءً محايداً أو مساحة للتعلّم الحر؛ بل كانت دائماً مرآة للسلطة المسيطرة، مهما تغيّرت الشعارات أو تبدّلت الوجوه. منذ أكثر من ستين عاماً، رُسّخ التلقين البعثي والأسدي عبر شعارات تُهتف ولا تُناقش، تُردَّد ولا تُفكَّر مثل "أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة"، ولاحقاً، "قائدنا إلى الأبد حافظ الأسد"، حيث يُطلب من الطفل أن يردّد، أن ينتمي، وأن ينكر فردانيته لمصلحة السلطة.
بعد سقوط نظام الأسد الإجرامي، تغيّرت الكلمات لكن الآلية لم تتغير، وهذا ما ظهر في أحد المشاهد المسرّبة عن افتتاح العام الدراسي في مدرسة ابتدائية بحرستا، حيث وقف الأطفال يردّدون شعارات دينية وفق نمط أسئلة وأجوبة تُذكّر بلا قصد بتاريخ طويل من الطاعة المفروضة. يُسأل الأطفال "جدّدوا إيمانكم" فيجيبون "تحرير الأقصى"، "قائدنا إلى الأبد" فيردّون "نبينا محمد"، "دستورنا" فيقولون "القرآن"، و"رسالتنا" فيردّون "الإسلام". للوهلة الأولى، يبدو المشهد محاولة لترسيخ قيم دينية، لكنه في جوهره يعيد إنتاج بنية التلقين البعثي الأسدي، مع استبدال القومية بالدين. هذه الشعارات لم يقتصر ظهورها في المدارس فقط؛ بل ظهرت أيضاً في مقاطع فيديو مسربة من تدريبات عسكرية، حيث شوهد الجنود يرددون عبارات مماثلة.
الفرق هنا بين التلقين البعثي الأسدي والتلقين الحالي ليس في الآلية؛ بل في مضمون التلقين. منطق الطاعة المطلقة يُستعاد كما هو، ويُفرغ الشعارات من أيّ مضمون تربوي. يُحوَّل الطفل إلى مشروع تابع، لا إلى مواطن حر. حين يُلقّن التلميذ أن قائده "إلى الأبد" هو النبي، من دون أن يُمنح مساحة للتأمل أو النقاش، يُختزل الدين إلى أداة ولاء، وتُسلب منه روحه الأخلاقية. وحين يُربط الإيمان بتحرير الأقصى، يُحمّل الطفل عبئاً سياسياً قبل أن يُعطى الحق في التفكير، أو اختيار موقعه من العالم.
هذا التكرار بين فضاءي التعليم والعسكرة يكشف عن مشروع متكامل، يعيد إنتاج الولاء الجماعي بلغة دينية هذه المرة، ويؤسس لنموذج هوية واحدة تُقدم بوصفها مرجعية مطلقة لا تقبل الجدل. في هذا النموذج لا يُربّى الطفل على التفكير، ولا يُدرب المجند على المساءلة؛ بل المطلوب أن يردّدا، أن ينتميا، وأن يذوبا في جماعة محددة الهوية.
إن استخدام الدين بهذه الصورة لا يُعيد فقط إنتاج منطق التلقين؛ بل يُفرغ الدين من روحه الأخلاقية، ويختزله إلى أداة طاعة. يُربّى الطفل على الانتماء القسري لا على بناء الضمير، ويُقدَّم الدين بوصفه هويةً مغلقة تُفرض من فوق، لا بوصفه قيمةً تُكتشف من الداخل. لكن الدين، حين يُقدَّم بوصفه قيمةً، يمكن أن يكون محرراً. في السياق التربوي النقدي، يُعلَّم الطفل أن يسأل عن الخير والعدل، أن يقرأ النصوص لا أن يهتف بها، وأن يبني موقفاً أخلاقياً مستقلاً. الفرق بين الدين بوصفه قيمةً والدين بوصفه أداةً ليس في المحتوى؛ بل في المنهج: الأداة توحّد الصف وتثبّت السلطة، أما القيمة فتوسّع الأفق وتُعمّق الضمير. حين يُربّى الطفل على أن النبي هو مثال أخلاقي يُحتذى به لا قائد يُطاع، يُستعاد الدين في جوهره الإنساني، ويُفكّ ارتباطه بالولاء السياسي.
العدالة التربوية لا تقصي الدين؛ بل تحرره من التوظيف السلطوي. لا تبدأ من استبدال شعار "قائدنا إلى الأبد" بشعار ديني؛ بل من تفكيك منطق الطاعة نفسه، ومن إعادة بناء العلاقة بين الطفل والمعنى على أساس السؤال لا التلقين. في هذا السياق، يصبح الدين محرراً، لا لأن لغته مختلفة؛ بل لأن وظيفته التربوية قد تغيّرت: من تثبيت الجماعة إلى تمكين الفرد.
هذا النمط لا يعكس عدالة انتقالية ولا مشروع تربية نقدية؛ بل يعكس سلطة بديلة تعيد إنتاج أدوات الهيمنة الرمزية، حتى إن غيّرت لغتها. حين يُقدَّم الإسلام بوصفه رسالةً جماعية غير قابلة للنقاش، يجد الأطفال غير المسلمين أنفسهم مقصَيين من المشهد التربوي، موضوعين في تناقض بين ما يطلبه أستاذ المدرسة وما يربّون عليه في منازلهم. تتحول المدرسة إلى اختبار للانتماء، لا إلى مساحة للتعلّم. ويُحمَّل الطفل أعباء سياسية ودينية مبكرة. المدرسة تصبح منصة للولاء الجماعي، لا للتعدد والتفكير النقدي. ويُطلب منه أن يُنكر خصوصيته كي يندمج في الجماعة، فيترسَّخ منطق الإقصاء بدلاً من أن يُهدم.
العدالة تتحقق بوجود نماذج تعليمية تُبنى على التعدد والمساءلة. في تجارب مثل "ريجيو إيميليا" الإيطالية، يُعامل الطفل بوصفه حاملاً للمعنى، لا متلقياً له. يُشجع على التعبير، على طرح الأسئلة، وعلى بناء مشروعه الفكري الخاص، من دون أن يُطلب منه الانصهار في جماعة محددة الهوية. وفي فنلندا، يدرسون القيم الأخلاقية عبر نقاشات مفتوحة، ويُمنح التلميذ الحق في مساءلة السلطة، بما فيها سلطة المعلم نفسه. هذه النماذج لا تدّعي الحياد، لكنها ترفض اختزال الطفل إلى أداة رمزية، وتُبنى على الاعتراف بالاختلاف والحق في السؤال.
هذا التكرار في الشعارات في المدارس ومعسكرات الجيش والأمن، بين الطفل والعسكري، بين الدين والسياسة، يكشف أن البنية السلطوية ما زالت حاضرة في سوريا بالرغم من سقوط الأسد. وما لم تُفكّك هذه البنية، وتُعاد صياغة التربية على أساس التعدد والمساءلة، سيبقى المواطن مشروع تابع، لا فاعل.
ولعلّ ما يعزّز هذا النقاش هو التعميم الأخير الذي أصدره وزير التربية، والقاضي بمنع ترديد أيّ شعار أو نشيد داخل المدارس، إلى حين اعتماد النشيد الوطني السوري والشعار الرسمي للوزارة. والذي جاء استجابة واضحة لمطالب الناس الرافضين لتحويل المدرسة إلى منبر للشعارات السياسية أو الدينية، ويمثّل خطوة إيجابية أولى ينبغي أن تستكمل بتعاميم وقرارات مماثلة من وزارتي الدفاع والداخلية، تحظر ترديد الشعارات داخل مراكز التدريب العسكري والأمني، بحيث تتحرر ساحات التربية والعسكر معاً من منطق التلقين، وتصبح فضاءات لبناء التفكير النقدي والمسؤولية.
العدالة تبدأ من الطفولة، من الحق في السؤال، ومن رفض أن يُستخدم الإنسان، صغيراً كان أو كبيراً، أداةً لتثبيت سلطة. وبناء سوريا جديدة لن يمر عبر الهتاف؛ بل عبر التربية على التفكير النقدي، وعلى الحق في أن يكون كل طفل نفسه، لا نسخة من الجماعة. السلطة التي تستبدل قائد مدني أوعسكري بقائد ديني، من دون أن تغيّر منطق الطاعة، لا تقدّم بديلاً؛ بل تعيد إنتاج الاستبداد بلغة أخرى. والعدالة لا تُقاس بالشعارات؛ بل بالمساحة التي يُمنح فيها الطفل ليكون مواطناً حراً، قادراً على السؤال، وعلى الاختلاف، وعلى أن يقول "لا" حين يُطلب منه أن يذوب في الجماعة.
