في الذكرى الثانية لـِ"طوفان الأقصى" وما تبعه من تهديد على الحدود الشرقية لمصر، يباغت البلاد من جنوبها هذه المرة طوفان آخر، بالمعنى الحرفي للكلمة وليس المجازي كسابقه. منذ مطلع الشهر ارتفعت مناسيب النيلين الأزرق والأبيض، مسببةً في فيضانات في عدة ولايات سودانية، وهو ما أثر على ألوف من السودانيين وخلف خسائر مادية باهظة، تضاف إلى الكلفة المريرة للحرب الأهلية الدائرة. في مصر، دفع ارتفاع منسوب المياه في بحيرة ناصر إلى تصريف الفائض بمعدلات متسارعة أعلى كثيراً من المعتاد، مما أدى إلى غمر مساحات واسعة من الأراضي في محافظتي البحيرة والمنوفية في دلتا النيل. وعلى خلفية الفيضان، اندلع تراشق دبلوماسي بين دولتي المصب، مصر والسودان، وأثيوبيا. ألقت القاهرة ومعها الخرطوم اللوم على السلطات الأثيوبية، معتبرةً أن الفيضانات ناجمة عن الإدارة "الأحادية وغير المسؤولة" لسد النهضة. من جهتها، نفت أديس أبابا مسؤوليتها عن الفيضانات؛ بل على العكس من ذلك، زعمت أن سد النهضة جنب دولتي المصب الآثار الأكثر تدميراً للموسم غزير الأمطار هذا العام.
التصريحات من الجانبين ذات طبيعة سياسية، ومع غياب البيانات الفنية، يصعب الفصل بين تأثير سد النهضة وتأثير العوامل الطبيعية والتقنية الأخرى المعقدة والمتداخلة. في العام 2020، وقبل اكتمال سد النهضة بخمس سنوات، ضربت السودان فيضانات غزيرة، وارتفعت مناسيب النيل إلى معدلات لم تسجل منذ أكثر من قرن، وخلفت تلك الفيضانات دماراً واسعاً، أثر في أكثر من ثلاثة ملايين سوداني، وشرد مئات الألوف منهم، إضافة إلى حوالى المئة قتيل وخسائر تقدر بـ4.5 مليار دولار أميركي. البيانات الهيدرولوجية لحوض النيل خلال العقدين الماضيين تشي بتأثير بالغ للتغير المناخي على الدورة المائية للنهر. فالسودان شهد فيضانات متكررة في الأعوام 2007 و2013 و2018 و2022 و2024. ويظهر أن وتيرة الفيضانات العاتية صارت أكثر حدة وتقلباً في العقد الأخير على وجه التحديد.
برعونة، تدير أديس أبابا سدودها من دون تنسيق أو تبادل للبيانات مع دولتي المصب، مما قد يؤدي إلى كوارث فادحة في المستقبل القريب. ومع ذلك لا ينبغي إغفال دور التغير المناخي في الاضطراب الذي أصاب دورة حياة أطول أنهار العالم. وقياساً على البيانات التاريخية للنيل، من المرجح أن يعقب مواسم الفيضانات الغزيرة المتتابعة، فترة طويلة من الجفاف، ربما تكون غير مسبوقة في قحطها.
إضافة إلى التغيرات المناخية الداهمة، ثمة عوامل سياسية وهندسية أخرى، بما في ذلك الحرب الأهلية الدائرة في السودان ، حيث أدى تداعي مؤسسات الدولة، وفقر المخصصات المالية، إلى تراجع كبير في كفاءة صيانة المنشآت المائية وإدارتها. في مصر أثار البعض تساؤلات حول ما إذا قامت وزارة الري المصرية بفتح مفيض توشكى لتصريف المياه الزائدة أم لا. أما رئيس الوزراء المصري، فأشار إلى أن تضرر الكثير من البنايات في محافظة الدلتا ناجم عن البناء المخالف على أراضي طرح النيل المعرضة للغمر بالماء على نحوٍ دوري.
في خضم التراشق الدبلوماسي بين دول الحوض، ما يبدو مؤكَّداً هو عدم جاهزية أيّ من حكوماتها للتعامل مع الآثار المدمرة للتغير المناخي. ومع غياب الشفافية المؤسسية والمحاسبة السياسية في تلك الدول، سيكون من المستبعد أن تراجع حكوماتها السياسات الحالية أو الخطط المستقبلية. تظل السودان الحلقة الأضعف بفعل الحرب الأهلية وتواضع السعة التخزينية لسدودها. والحال أن انعدام الثقة المتبادلة بين أثيوبيا ودولتي المصب، يعيق التنسيق وتبادل البيانات اللازمين لإدارة مياه النهر على نحوٍ آمن ولمصلحة الجميع. وفي ظل تلك الظروف، يبدو خطر الطوفان العظيم حقيقياً ووشيكاً، وبالقدر نفسه من الخطورة يلوح شبح سنين طويلة من القحط في الأفق.
